مضى رمضان، لكن الحديث عنه لم ينته بعد، فربة البيت سواء أكانت أماً أو زوجةً أو أختاً أو بنتاً أو غيرها، تبذل جهوداً غير عادية في الشهر الفضيل دون غيره من الشهور تصل إلى حد الإنهاك والإعياء أحياناً، وذلك لإعداد وجبات الإفطار والغبوق (أحياناً) والسحور لأسرتها ومراعاة أذواق كافة أفرادها التي تختلف، فيكون التنويع في إعدادها والذي يستلزم الكثير من الجهد، وهدفها النبيل إسعادهم ورضاؤهم، فتكون بهذا كما قال أحد العلماء -والله أعلم- أكثر أفراد الأسرة نيلاً للأجر في رمضان، وينطبق عليها ما جاء في الحديث الشريف «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس».
منذ بداية الشهر تعلن ربة البيت درجة الاستعداد القصوى، وتنفض الغبار عن كتب الطبخ التي تقتنيها، وتسترجع في جوالها وصفات الطبخ التي سجلت أو أرسلت إليها، وتزور موقع محرك البحث «قوقل» لهذا الغرض، ويكون المطبخ سيد الأماكن في رمضان وينقلب إلى خلية نحل لا تهدأ، تقابل خلاله النيران، وقد تتعرض لحروق في يديها أو ذراعها أو حتى وجهها، ويتضاعف الإنهاك إذا كانت عاملة فتسابق الزمن منذ خروجها من العمل، كما يتضاعف الإعياء إذا كان لديها أطفال صغار يتطلبون العناية والإرضاع والمراقبة الدائمة، ومما يزيد طينتها بلة ويرفع درجات ضغطها وسكرها أن يبتليها الله بزوج جلف وأبناء لا يقدِّرون معاناتها، فهم قليلو الشكر، كثيرو الانتقاد لطبخها، دائمو «النقنقة»، جرّدوا من الخلق النبيل والذوق الرفيع، كما أن من الأزواج من لا يزال يحيي عادة قديمة لم تعد مناسبة لظروف هذا العصر وهي إقامة (دوريات إفطار) لمجموعة من الأقارب أو المعارف، فإذا جاء الدور على ربة البيت استعدت لذلك قبله بعدة أيام، مع الهم والقلق الذي يساورها خشية أن تكون مقصرة، أو تكون فلانة أو فلتانة أكثر مهارة منها في الطبخ، أو تكون موضوعاً للتندر والسخرية من قبل البعض منهن.
ولهذا كله، وامتثالاً للهدي النبوي الشريف «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، ولمعرفتي بأن الأكثرية من رجال هذه المملكة المباركة ما زالوا على الفطرة السليمة الزكية، يقدِّرون ربات بيوتهم ويشكرونهن سواء في رمضان أو غيره لأن بينهم وبينهن «مودة ورحمة» نبيلة لا يزيدها طول العشرة إلا ثباتاً ورسوخاً لهذا فإنني أدعو إلى أن تتبنى المملكة رسمياً «يوم المرأة المسلمة في رمضان»، ويكون ذلك في آخر أيامه، عرفاناً وتقديراً لدورها وعنائها في الشهر المبارك، فتحتفل به كل أسرة في نطاقها فقط، وتكرَّم بما يليق بها.
ويقيناً، أنه إذا تبنت المملكة حاضنة الحرمين الشريفين ومنبع الإسلام والفصحى هذا اليوم فستتبعها في ذلك كل الدول العربية المسلمة نظراً لنبل الهدف الإنساني وثقلها الروحي والتاريخي.. وللعلم فإن معظم الأيام والمناسبات التي تتبناها دول عربية وإسلامية وفدت إلينا من الخارج وبخاصة من الغرب، وبهذا رضينا أن نكون دائماً «المتلقين» بدلاً من أن نكون المبادرين والرواد في المجالات الإنسانية على الرغم من ثرائنا الروحي والثقافي والإنساني والتاريخي.
وربما يحلو للبعض الذي قد لا تعجبه الفكرة أن يقول إن الشغالات هن من يتحملن القسط الأكبر من العمل في رمضان، وهذا غير صحيح لدى الغالبية من البيوت، إذ ليس لدى كل الأسر في الآونة الأخيرة شغالات بسبب تكاليفهن الفلكية التي تصاعدت بشكل غير معقول، إضافة إلى أنه حتى مع وجود الشغالة في البيت فإن الطبخ والإشراف عليه وعلى البيت عموماً يكون من مهمة ربة البيت، ويقتصر دور الشغالة عموماً على الغسيل والتنظيف، كما أنه ليس بصحيح اعتماد بيوت كثيرة على أكل المطاعم، بل على فئة قليلة يكون نهاية دوام ربة البيت في عملها متأخراً ويقترب من المغرب، لأن الوعي الصحي والوقائي لدى الناس قد ارتفع وأصبحوا حذرين من أكل المطاعم الذي يسبح في دهون وشحوم وزيوت رخيصة تسد الشرايين وترفع الكولسترول، وقد سمعت كثيراً عن المطاعم التي تشتري الشحوم الحيوانية التي يتركها الناس لدى الجزارين، وكذلك عدم تجديدهم زيوت القلي التي تسود من كثرة استخدامها، وذلك من أجل خفض التكاليف ليس إلا، إذ آخر اهتماماتها صحة زبائنها، ناهيك عن انعدام النظافة لدى بعض المطاعم الشعبية، بل وحتى المطاعم الفخمة غالية الأسعار، وقد شاهدت عبر لقطات أخذت خفية في مطاعم محلية وعلى مستوى العالم مناظر داخل مطابخها لم يلتزم العاملون فيها بأدنى مستويات النظافة والتعقيم عند إعداد الطعام؛ مثل عدم استخدام قفازات اليدين، أو هرش أجزاء من الجسم، أو رمي مكونات الطعام على الأرض أثناء عملية الإعداد، أو إعدادها في دورات المياه (وأنتم بكرامة)، وهذا ما جعل بعض المطاعم تجعل مطابخها مكشوفة لطمأنة الزبائن، وهو توجه إيجابي صحي آخذ في الانتشار محلياً وعالمياً. وبالطبع لا يمكن التعميم، إذ إن الكثير من المطاعم لدينا ليست على هذه الصورة المنفِّرة، كما أن تناول الطعام في المطاعم ثقافة اجتماعية حضارية عالمية، ذات مردود اقتصادي كبير على مستوى الأفراد أو الدول، كما يتيح التواصل الإنساني بين الناس على مختلف مستوياتهم وخلفياتهم منذ الأزل. وأخيراً، فإننا نشعر بأنَّا قد خرجنا عن الموضوع بعض الشيء ووقعنا في الاستطراد على طريقة الجاحظ العظيم، ولهذا نطمح بأن تتبنى المملكة هذا اليوم ضمن رؤية 2030 التي لا تتثاءب، والمملكة عملاق أخذ يتعرَّف ويوظف المقدرات والقوات الناعمة والروحية والصلبة الكامنة لديه، والتي عطَّلت أزماناً طويلة بسبب عدم الثقة بالنفس أو التشدد أو التردد أو السذاجة.