جانبي فروقة
أوضح الرئيس الروسي بوتين في خطابه الأخير في عيد النصر أن الناتو يمثِّل تهديداً واضحاً لموسكو، وما يحدث الآن وبعد العملية العسكرية لروسيا في أوكرانيا أن دولاً مثل فنلندة والسويد بدأتا تفكران جدياً بالانضمام للناتو و(فنلندة وحدها تملك 1.309 كيلومتر حدود مع روسيا) كما بدأت دول الاتحاد الأوربي بزيادة إنفاقها العسكري؛ فألمانيا وحدها زادت إنفاقها العسكري من 46.9 مليار دولار في 2021 إلى 75 مليار دولار في 2022 .
أفرزت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وضعًا اقتصاديًا خطيرًا على مستوى العالم؛ فارتفاع أسعار الطاقة أدى إلى حدوث تضخم قياسي حتى في الولايات المتحدة الأمريكية والذي تجاوز الـ8 % وهذا لم يحدث منذ 40 عاماً. ولم يتعاف بعد اقتصاد العالم من وباء كورونا وتداعياته وبات خطر المجاعة يتهدد العديد من دول العالم الفقيرة، فحسب بلومبيرغ أحدثت الحرب الروسية على أوكرانيا اضطراباً في تجارة الحبوب العالمية التي بلغت 120 مليار دولار كما تتأهب الأسواق للمزيد من الاضطرابات في سلاسل التوريد وأسعار الشحن فروسيا وأوكرانيا تتحكمان بربع تجارة الحبوب في العالم وشبح نقص الغذاء بات يخيم على العالم.
كما صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا تثير أزمة اقتصادية عالمية، مشدداً على أن روسيا تتعامل بنجاح مع العقوبات الغربية التي فرضت عليها وهذه العقوبات تثير أزمة عالمية إلى حد كبير وقال الرئيس الروسي إن واضعي العقوبات وهوسهم واسترشادهم بطموحات سياسية قصيرة النظر وبالروسيافوبيا (العداء والإرهاب ضد روسيا) سيؤدي إلى مجاعة عالمية وإلى عواقب صعبة ومعقدة لمواطني الاتحاد الأوربي، حيث إن الاتحاد الأوربي لوحده يعتمد على 40 % من احتياجاته على الغاز الروسي.
وعلَّق بنك جي بي مورغان مؤخراً أن الاقتصاد الروسي يبدي ممانعة جيدة للعقوبات وهذا يعود لعدة أسباب منها أن الحكومة الروسية كانت قد اعتمدت في بداية الغزو رفع الفائدة إلى 20 % ومن ثم تم تخفيضها إلى 14 % لتحفيز الاقتصاد وقامت السلطات الروسية بفرض رقابة على حركة رؤوس الأموال للخارج وطالبت الحكومة كل المصدرين إلى تحويل عائداتهم إلى العملة الوطنية «الروبل الروسي» وتمكن الروبل من الحصول على أرضية قوية بعد أن تمكنت السلطات الروسية من الدفع للدائنين مستحقاتهم بالدولار الأمريكي، وبالمقابل تم الفرض على الدول الأوربية التي ترغب بالاستمرار بالحصول على الغاز الروسي الدفع بالروبل الروسي وحتى اليوم تم رصد 20 شركة طلبت فتح حسابات بالروبل الروسي، وكان الرئيس الروسي في خطاب يوم النصر قد علق أيضاً قائلاً إن الميزانية الروسية حققت فائضا من يناير إلى أبريل من العام الجاري بقيمة 2.7 تريليون روبل (41 مليار دولار) وهذا ما يجعل الروبل يظهر بأفضل ديناميكية بين جميع العملات في العالم وكما بشَّر الرئيس الروسي العالم بأن المحصول الروسي من الحبوب هذا العام من المتوقع أن يحقق أرقاماً قياسية ويصل إلى 130 مليون طن بما في ذلك 87 مليون طن من القمح، وسيسمح ذلك بأن يلبي الاحتياجات المحلية وزيادة الإمدادات العالمية لشركاء روسيا.
بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014م وفرض العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا وانهيار أسعار النفط توقع الكريملين أن العقوبات ستتصاعد ضد روسيا فابتكر ما أطلق عليه ريتشارد كونولي (خبير الاقتصاد الروسي في معهد رويال يونايتد سيرفيسز في بريطانيا) «اقتصاد كلاشينكوف» في إشارة إلى البندقية العسكرية الروسية وهو اقتصاد يعتمد على المتانة لا الأداء، وقال إنه «نظام دائم، بدائي من بعض النواحي» يقوم على أساس الديون المنخفضة والسيطرة الحكومية على معظم النظام المصرفي والانضباط الاقتصادي الكلي وبنك مركزي قادر على التدخل ودعم العملة والبنوك وقامت الحكومة الروسية بفطم نفسها عن الدولار الأمريكي بتخفيض حيازتها عليه كعملة احتياطية من 40 % إلى 11 % وقامت ببناء احتياط من الذهب يصل إلى 130 مليار دولار ودخلت الحرب وفي رصيدها 640 مليار دولار من الاحتياطي النقدي بالعملات الصعبة ورغم آلام العقوبات الاقتصادية للغرب على روسيا والمتمثّلة بارتفاع التضخم إلى 20 % وانكماش الاقتصاد، حيث على سبيل المثال انخفضت صناعة السيارات بنسبة 70 % فإن العديد من الاقتصاديين يقولون إن الانهيار التام أمر غير مرجح ورأينا هذا في كوبا وإيران.
وعلق كونولي قائلاً: «أنا لا أقول إن الروس سيستمتعون بوقت رائع وإنما أقول إن لديهم الموارد للتعامل مع هذه المشاكل «و لكن يصعب التنبؤ إلى أي مدى ستكون العقوبات موجعة ولا ننس أن التركيبة السكانية الضعيفة لروسيا وتوجه الاتحاد الأوروبي إلى تقليل الاعتماد على الطاقة الروسية وتشديد العقوبات ستصبح نقاط ضعف أكثر وضوحاً داخل حصن كلاشينكوف وما يخشى منه هو السبات وغياب المنافسة والتضحية بالإنتاجية بهدف المركزية وضمان السيطرة على مقدرات الدولة.
كان العديد من منظري وعلماء السياسة الخارجية الأمريكان يتمتعون ذات يوم بالحس السياسي السليم بين نخبة الأمن القومي في أمريكا فقد وصف مرة جورج كينان (المؤرخ والدبلوماسي الأمريكي) بأن توسع الناتو هو خطأ إستراتيجي ذو أبعاد ملحمية محتملة وكما علق مرة توماس فريدمان كاتب العمود الأبرز في السياسة الخارجية الأمريكية قائلا: إن الناتو «هو المشروع الأكثر سوءا في فترة ما بعد الحرب الباردة»، وفي عام 2014 قال هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأسبق) «على الغرب أن يفهم أنه بالنسبة لروسيا لا يمكن لأوكرانيا أن تكون مجرد دولة أجنبية» وأصر على أنه «إذا كان لأوكرانيا أن تعيش وتتطور فلا يجب أن تكون نقطة استيطانية لأي من الجانبين ضد الآخر، بل يجب أن تعمل كجسر بينهما» وكان يجب على أوكرانيا أن تنتهج موقفاً مشابها لفنلندة.
قدم لنا جون ميرشايمر (أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو) نظرية «الواقعية الهجومية» وهو من دعاة سياسة القوى العظمى والتي تسعى في فرض واقع « Offensive Realism « هجومي لحماية مصالحها الذاتية للحفاظ على أمنها القومي. وكان ميرشايمر قد جادل بأن الولايات المتحدة الأمريكية بدفعها لتوسيع الناتو شرقاً وإقامة علاقات ودية مع أوكرانيا ومحاولة هندسة أوكرانيا لتكون ديمقراطية ليبرالية تابعة لأمريكا زادت من احتمالية اندلاع حرب بين القوى المسلحة نووياً وأرست لموقف بوتين العدائي تجاه أوكرانيا.
نشر الأديب الروسي يفغيني زامياتين (1884 - 1937) والمعروف بروايات الخيال العلمي الديستوبي (الواقع المرير) رواية «نحن» في عام 1922 وهي رواية استشراقية ورائدة أثَّرت في الكثير من الكتَّاب مثل جورج أورويل، وكان زامياتين قد نشر مقالاً بعنوان «أنا خائف» تحدث فيها عمَّا اعتبره نظاماً سوفياتياً ناشئاً لا يسمح سوى للكتَّاب الموثوق بهم أيديولوجياً بنشر أعمالهم.
وأحداث رواية «نحن» تدور في المستقبل في دولة استبدادية لا تختلف كثيراً عن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق آنذاك، فقد استشرف زامياتين حكم الترهيب، حيث إن البلاشفة كانوا قد بدؤوا بفرض الرقابة وأنشؤوا الشرطة السرية بعد نشره للرواية وقد رسمت الرواية دولة واحدة ذات ستار حديدي ليس للناس أسماء تميزهم بل يتم التعريف بهم من خلال أرقام وأحرف ويرتدون زياً موحداً ويعيشون بمنازل شفافة ويأكلون طعاماً مصنعاً ويتم تنظيم حياتهم بجداول زمنية ويتحدثون بلغة معكوسة ويطلق على الطاغية اسم «فاعل الخير».
وما يحدث اليوم في العالم يفضي إلى مقولة «نحن خائفون» ومن هو فاعل الخير الجديد؟
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية