الموت حق.. ومن المؤلم أن يفارقنا إنسان عزيز على قلوبنا، نحبه كثيراً ونستشعر بألم الفراق به حين تختفي بسمته، ونفقد كلماته الحلوة، وتغيب جلساته التي تبث روح السعادة في النفوس والوجدان. فيغادرنا في حضرة الموت، أو الزائر الأخير.. هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات..! دون سابق إنذار من دار الفناء، إلى دار البقاء.
*فلا عجب إذاً أن الموت هو الحقيقة التي تقف أمامها البشرية عاجزة عن الهروب منه، وكما قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (78) سورة النساء، لأن الخلائق جميعًا ما هي إلا ودائع وأمانات في هذه الدنيا، فمتى ما انتهى أجلها أعيدت انطلاقًا من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (34) سورة الأعراف.
في مساء يوم الأحد 7-10-1443هـ تلقيت ببالغ الحزن والأسى خبر وفاة الشيخ الجليل رجل البر والإحسان (محمد بن علي المغامس) إثر مرض عانى منه الفقيد بعد حياة طيبة امتدت قرابة قرن من الزمن كانت عامرة بالزهد والتقى والورع والعبادة والأعمال الصالحة، تغمده الله بواسع رحمته.
وُلد الشيخ محمد بن علي المغامس عام 1343هـ في بلدة الخطامة في سدير من أسرة عريقة تنتمي إلى جدها (حمد بن عبد العزيز آل مغامس) الذي أحيا هذه البلدة القديمة في عام 1140هـ وتحديدًا في عهد مؤسس الدولة السعودية الأولى الأمير محمد بن سعود -رحمه الله- وطبقًا للشواهد النقلية والمعلومات التاريخية كان جدّهم قادمًا إليها من مركز إشيقر التابع لمحافظة شقراء مرورًا لفترة قصيرة بحوطة سدير، وبعد أن بلغ من العمر 17 سنة تعلم في هذه البلدة العريقة (الخطامة) في الكتاتيب بالإضافة إلى تعلمه بعض العلوم الشريعة على يد إمام الخطامة في الخمسينيات الهجرية من القرن الفائت الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن البسام -رحمه الله- وبعد أن تعلم وأصبح معتمداً على نفسه قرر الذهاب إلى الرياض على (مطية الاتكال على الله).. فاستأذن والده الشيخ علي بن محمد -رحمه الله - بحثًا عن طلب الرزق والمعيشة من الصفر في عالم التجارة، وبدأ في التجارة البسيطة وكان كثير التنقل والسفر للكويت في بداياته لتواجد عمه الشيخ سليمان بن محمد المغامس -رحمه الله - الذي اشتهر في تجارة المواد الغذائية في الكويت، وبعد وفاة عمه وازدهار ميناء البحرين حول تجارته لها بعد أن توسعت خطوطها العريضة مع شركائه في سوق الجملة بالبطحاء في تجارة الملابس وأنواعها.. ثم طور تجارته لتشمل النشاط العقاري بأنواعه، ورغم مشاغله التجارية لم ينس بلدته التاريخية (الخطامة)، إذ كان حريصًا على توفير كل الخدمات والمرافق لها منذ سنوات خلت مما كان لاهتمامه ومتابعته المستمرة أن أضحت (الخطامة) هذه البلدة الحالمة التي تعد من المراكز القديمة في أقليم سدير.. تعيش تنمية حضرية مزدهرة بفضل الله ثم جهود الأهالي ومنهم عائلة المغامس التي اشتهرت بالكرم والشهامة والنبل والقيم الاجتماعية الأصيلة.
كان فقيدنا الغالي رجلاً تقيًا صاحب قيم إيمانية فضيلة وشيم تربوية واجتماعية أصيلة، ورغم تجارته لم تكن بوصلة اهتمامه تتجه للمال وحُب الدنيا وزخارفها بل كان تقيًا سلفيًا انصرفت حياته الإيمانية إلى محطات الزهد والعبادة والورع، فكان يحظى بمكانة وتقدير من وجهاء وصفوة المجتمع، ولا غرو من ذلك فقد كان - رحمه الله - صاحب قلب نقي وتقي يتسع للجميع حبًا ومودة.. قلب لا يعرف الكراهية والضغنية والأحقاد بل كان صاحب قلب سليم منصرف للخير والتسامح والنبل والعمل الصالح، يقول الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88-89) سورة الشعراء، وكان -رحمه الله- كثير التصدق والإنفاق وحُب الإحسان في السر والخفاء. ومن حبه للصدقة والتصدق وكما قال عليه الصلاة والسلام (الصدقة برهان..) أي دليل صدق إيمان العبد كان -رحمه الله- ينفق ماله على الصدقة ومساعدة المحتاجين والفقراء والمساكين ويتفقد أحوال المعسرين لما وهبه الله تعالى من قيم الإحسان وسلامة الصدر ونبل المشاعر الإنسانية الجياشة التي كانت تسكن عمق وجدانه منصرفًا لأعمال الخير والإنفاق والعطاء بسخاء في سبيل الله، وكان - رحمه الله- يحرص على تغطية هذه الأعمال الخيرية (بغطاء الإخلاص) لأنه كان لا يحب الحديث عنها.. والإخلاص من أعظم أصول هذا الدين العظيم، ومن هذه الأعمال الجليلة لفقيدنا الغالي التي حرص على أن تكون لوجه الله سبحانه وتعالى بعيداً عن ذكرها وإبرازها خشية (الرياء)..!! يذكر لكاتب السطور ابنه الزميل الدكتور عبد العزيز المغامس قصة بناء والده جامعًا في مركز الخطامة بسدير عام 1440هـ، وبعد الانتهاء قال لوالده: هل ترغب في إطلاق اسمك على هذا المسجد الجامع.. الذي تكفلت ببنائه؟! ضمن أعماله الخيرية في دعم الجمعيات الخيرية، وحلق القرآن وبناء وترميم المساجد، رد عليه قائلاً: بصوت مفعم بالإيمان والإخلاص مستحضرًا النية الخالصة (لقد اخترت له اسم الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعل الله أن يقبله ويمنَّ عليَّ برفقة الصديق في الجنة). هكذا هم الصالحون الصادقون في أعمالهم الجليلة وعباداتهم الفضيلة يخلّصون قلوبهم من شائبة الرياء المكدر لصفائها برأس الدين (الإخلاص).. منطلقًا من قوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (20) سورة الليل.
كما كان -رحمه الله- ممن صاحب القرآن الكريم في بواكير عمره فكان -كلام الرحمن- نعم الصاحب ونعم السمير له في حياته الإيمانية والوجدانية، كما كان كثير الصمت ويكره الغيبة في مجالسه والكلام في أعراض الناس.. والصمت نصف الحكمة كما قيل.
كان -رحمه الله- أسوة حسنة في صلة الأرحام وحب التواصل وزيارة أقاربه وأحبابه، فعلى الرغم من أنه كان عميدًا للعائلة وأكبرهم سنًا كان يحرص على تأصيل هذه العبادة الفضيلة في نفوس أبنائه بتواضعه الجم دون أن يضع له حقًا أو اعتبارًا في ذلك! كما كان صاحب قيام الليل والمحافظة على الصلاة المفروضة والسنن المكتوبة كمنهج حياة سار عليه حتى في ظل ظروفه الصحية وتقدم عمره وثقل حركته وأوضاعه المرضية في آخر أيامه.. إنها قلوب عظيمة ونفوس صادقة نشأت وتربت على حُب الصلاة.. ولا غرابة من ذلك فالصلاة معراج المؤمن وهي الصلة بين العبد وربه، ولأن (التربية بالقدوة) منهج تربوي حديث كان -رحمه الله- يطبق هذا المنهج مع أبنائه وأحفاده مما كان له الأثر الكبير في تنشئتهم التنشئة الصالحة وتربيتهم على القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية السليمة.
اللهم ارحم عبدك الفقير إليك (محمد المغامس) وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأورثه صحبة النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- خالد الدوس