بعد كل نعمة معطاة أو أداء كل عبادة محددة بزمن، تجد بأن من قام بذلك يشكر من أدى إليه تلك النعمة ويشكر الله على تمام العبادة؛ لأن الشكر له منزلة عظمية؛ فالشكر لا يكون إلا بعد الرضى وقد ظهرت منزلته في القرآن الكريم حيث قرن بين الصبر والشكر قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (5) سورة إبراهيم، والصبر والشكر يستغرقان حياة المؤمن؛ لأن المؤمن إما أن يكون في سعة فيشكر أو في ضيق فيصبر قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). فالإنسان في كلتا الحالتين يفوز بالسعادة، ومما يدلّ على خصوصيتهم ومكانهم عند الله عز وجل قوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
مما يدل على أهمية الشكر وفضله أن قليلاً من الناس يشكرون الله على نعمه وأكثرهم قاصرون فيه، قال تعالى {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: الشكر حقيقة الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته. وقليل من يفعل ذلك، روي أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك. فقال: يا داود الآن عرفتني. وقال الزهري:
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: قولوا الحمد لله، أي: اعملوا عملاً هو الشكر، وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسدّه. سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. فقال عمر: كل الناس أعلم منك يا عمر!.
الشكر صفة من صفات الله سبحانه وتعالى واسم من أسمائه الشكور قال تعالى: {وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} سورة النساء الآية (147). وقال تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
الشكر من شأن الأنبياء عليهم السلام وصفة لأولياء الله الصالحين: قال تعالى في إبراهيم عليه السلام {شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} سورة النحل الآية (12). وفي نوح عليه السلام يقول: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} سورة الإسراء الآية (3).. وقال على لسان سليمان {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} سورة النمل الآية (40). وخير الشاكرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه فقالت عائشة رضي الله عنها إن الله سبحانه وتعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلماذا هذا التعب الشديد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً؟. رواه البخاري
بالشكر تزيد النعم وتنمو قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } سورة إبراهيم الآية (7). وقال صلى الله عليه وسلم: لا يرزق الله عبداً الشكر فيحرمه الزيادة؛ لأن الله عز وجل يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن علي رضي لله عنه أنه قال: «إن النعمة موصولة بالشكر والشكر معلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن واحد، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد. وعن عمر بن عبدالعزيز قال: « قيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى». ويقول الغزالي: وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن». وقال تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
نيل رضا الله ومحبته : قال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ومن رضي الله عنه أناله سعادة الدنيا والآخرة. وعن أنس رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها. رواه مسلم
رفع العذاب والنجاة في الدنيا والآخرة: لقد بين القرآن الكريم بأن الشكر ينجي الإنسان من عذاب الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}.
الجزاء العظيم من الله سبحانه وتعالى: من أهمية الشكر بأن الله سبحانه وتعالى يعطيه جزاءً قال تعالى: {وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}.
درجات الشكر:
والشكر على ثلاث درجات ذكرها العلامة ابن القيم رحمه الله نوجزها بما يلي:
الدرجة الأولى: الشكر على المحاب:
وهذا شكر تشارك فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ومن سعة رحمة الباري سبحانه: أن عده شكرا ووعد عليه الزيادة وأوجب فيه المثوبة.
وحقيقة هذا الشكر: الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته: ومن خلال هذا تعلم أن هذه الدرجة من درجات الشكر اختص بها أهل الإسلام، وأن حقيقة الشكر على المحاب ليست لغيرهم.
نعم لغيرهم منها بعض أركانها وأجزائها كالاعتراف بالنعمة والثناء على المنعم بها فإن جميع الخلق في نعم الله، ولا شك أن كل من أقر بالله ربا، وتفرده بالخلق، والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه، لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر وهو الاستعانة بها على مرضاته، وهذا مما اختص به أهل الإسلام.
الدرجة الثانية: الشكر في المكاره:
وهذا الشكر أشد وأصعب من الشكر على المحاب، وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة، ولهذا كان فوقه في الدرجة.
وهذا الشكر لا يكون إلا من أحد اثنين: الأول: لا يميز بين الحالات بل يستوي عنده المكروه والمحبوب فشكر هذا: إظهار منه للرضى بما نزل به وهذا مقام الرضى.
الثاني: من يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله به، فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه فكان شكره كظما للغيظ الذي أصابه، وستراً للشكوى، ورعاية منه للأدب وسلوكاً لمسلك العلم فإن العلم والأدب يأمران بشكر الله على السراء والضراء فهو يسلك بهذا الشكر مسلك العلم، فشكره لله شكر من رضي بقضائه كحال الذي قبله فالذي قبله أرفع منه.
وإنما كان هذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة: لأنه قابل المكاره التي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوساطهم بالصبر وخاصتهم بالرضى فقابلها هو بأعلى من ذلك كله وهو الشكر فكان أسبقهم دخولا إلى الجنة وأول من يدعى منهم إليها.
الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم.
فإذا شهد المنعم عبودية: استعظم منه النعمة، وإذا شهده حبا: استحلى منه الشدة، وإذا شهده تفريدا: لم يشهد منه نعمة ولا شدة، يستغرق صاحبها بشهود المنعم عن النعمة فلا يتسع شهوده للمنعم ولغيره وهم على ثلاثة أقسام: أصحاب شهود العبودية: وهي مشاهدة العبد للسيد بحقيقة العبودية والملك له، وأصحاب شهود الحب، وأصحاب شهود التفريد، ولكل قسم من هذه الأقسام حكم وتفاصيل، تنظر في موطنها حتى لا يطول بنا المقام.
والشكر له فوائد كثيرة، منها:
الشكر من كمال الإيمان وحسن الإسلام فهو نصف الإيمان، كما أن الشكر اعتراف بالمنعم والنعمة، وسبب من أسباب حفظ النعمة بل من الزيادة فيها، ولا يكون الشكر باللسان فقط بل يكون بالجوارح والأركان،كما أن الشكر من أسباب كسب المؤمن رضا الرب تبارك وتعالى.
والشكر فيه دليل على سمو النفس وعلوّها، والشكور قرير العين، يحبّ الخير للآخرين، ولا يحسد من كان في نعمة، و إن الشكر يجعل صاحبه من أهل خواص عباد الله وقليل ما هم، كما أن من فوائد الشكر حصول الأمان من عذاب الله عز وجل. وغير ذلك من الفوائد والثمار.