د.زاهر عثمان
توضح دراسة حديثة قامت بها المستشارة بمركز الإدارة المحلية أرزو شيبستون قُدمت في المؤتمر الدولي للاستدامة التطوير والابتكار بجامعة الأمير سلطان في 19-21/ 2/ 2022 بعنوان «الحوكمة الذكية لمدن المستقبل» أن تبني الحوكمة الابتكارية هو مفتاح النجاح لمشروعات المدن الذكية. وخلصت الدراسة إلى أن المدن تحتاج في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى إلى اعتماد أشكال تشاركية وابتكارية من الحوكمة للتصدي والتعامل مع تحديات التنمية العمرانية التي تزداد تعقيداً في الآونة الأخيرة.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 5 مليارات نسمة سوف يعيشون في المدن بحلول عام 2030 ومن المتوقع أن تتضاعف المساحة الاجمالية المبنية للمدن في العالم، وهذه الظاهرة كافية لتجعل من المدن المحور الرئيسي الذي تركز عليه مناقشات التنمية المستدامة. وغالباً ما يُقدم مفهوم المدينة الذكية على أنها تقدم الحل، وهي الموجه للطرق لمواجهة هذا التحدي والتحديات التي تواجهها المدن، ولكن هناك قلق من أن المدن الذكية عادة ما تؤدي إلى أسلوب حكم تكنوقراطي، وذلك بسبب تركيزه المفرط على التكنولوجيا وعدم التركيز بدرجة كافية على الأشخاص والأماكن والمؤسسات.
وأكدت الدراسة على أهمية الأخذ في الاعتبار النظام البيئي (الإيكولوجي) القائم على أخذ الاعتبارات المكانية للمدن، وأن نجاح مشروعات المدن الذكية يعتمد بشكل كبير على ممارسات الحوكمة والإدارة الابتكارية التي تعزز التعاون بين جميع الأطراف والقطاعات المعنية والمهتمة من أجل بناء مستقبل مدينتهم معًا. ويعرّف النجاح بأنه توفير نوعية حياة عالية الجودة للجميع.
«تتطلب الرؤية المستقبلية للمدينة تحولًا كبيرًا في الطريقة التي نصمم وندير بها مدننا وأحياءنا وبيئاتنا الحضرية.»
تصف الدراسة مدن المستقبل بأنها أماكن مستدامة محورها الأساسي هو المواطن وتتسم باقتصاديات شاملة ومزدهرة، ووسائل نقل متكاملة وسلسة، ومرافق تعليمية ورعاية صحية يمكن الوصول إليها بدون أي مشقة، وبنية تحتية منخفضة الكربون فعالة ومرنة، وإسكان ميسر التكلفة، وبيئة نابضة بالحياة وحيوية وذات طبيعة إيجابية وملائمة للعيش. ويتطلب تحقيق هذه الرؤية المستقبلية للمدينة تحولًا كبيرًا في الطريقة التي نصمم بها مدننا وأحياءنا الحضرية ونديرها.
أشارت الدراسة إلى أنه رغم أن المدن الذكية هي عوامل تمكين رئيسية لتحويل مدن اليوم إلى مدن مستقبلية إلا أنها على الأرجح ستكون ناجحة إذا كانت مصحوبة باستراتيجيات حوكمة ابتكارية. وتؤكد الدراسة أن الحاجة إلى الحوكمة الابتكارية أصبحت أكثر أهمية في الاقتصاديات المستحدثة التي تعتمد على المعرفة في الوقت الحاضر وفي المجتمعات الذكية رقمياً والمسؤولة والرشيدة اجتماعياً، وتعتمد على حقيقة مفادها أن المزيد والمزيد من المواطنين يتوقعون من قادة مدنهم تصميم وتنفيذ سياسات عمرانية وحضرية متكاملة بل إنهم يطالبون بمستوى أعلى كثيراً في الإجراءات التي يشترك فيها أكثر من قطاع. ويتطلب التحول المحلي في هذا العصر الجديد التواصل والربط وإقامة الشبكات والتعاون بين مختلف الجهات الفاعلة وتنظيم وريادة الأعمال والشراكات. وهذا يعني بدوره وجود حوكمة حضرية قائمة على الابتكار تركز على المستخدم وأصحاب المصلحة المتعددين.
تناولت الدراسة كيف تمكّن استراتيجيات الحوكمة الابتكارية المدن من تنشئة ورعاية أنظمتها البيئية (الإيكولوجية) المحلية والاستفادة من مواطن قوتها استناداً إلى دراسات الحالة الإفرادية للمدن الذكية. وتبين كيف تمكنت المدن الذكية الناجحة من العمل جنبا إلى جنب مع أصحاب المصلحة والمجتمعات المحلية من خلال تبني ممارسات حوكمة ابتكارية أكثر ملاءمة لتشجيع الابتكار. وتبين الدراسة أيضاً كيفية وضع الخطط وتطويرها واجتذاب الموارد وإيجاد الحلول والشراكات للتعجيل بتطبيق التدابير المستدامة بغية توفير نوعية حياة أفضل لمواطنيها.
تم في هذه الدراسة إدراج بعض الأمثلة على بعض الممارسات الحديثة والابتكارية على سبيل المثال: الحوكمة المشتركة، والحوكمة الإلكترونية التي تتمحور حول المواطن، ومنصات جمع المعلومات عن السياسات، والإبداع المشترك، والتنظيم الذاتي، ومختبرات المعيشة الحضرية. وتنطوي جميعها على التجريب والتعاون والشراكة مع أصحاب المصلحة المحليين. وتُظهر الدراسة كيف تدعم التخطيط التعاوني ومشاركة المواطنين وتنسيق الجهود على مختلف المستويات: بين المنظمات والقطاعات المختلفة أو من خلال العلاقة بين الحكومة والمواطن.
وشددت الدراسة أيضًا على أنه في حين أن السياسة الحضرية المتكاملة يمكن أن تساعد المدن على الجمع بين جميع الجهات الفاعلة معًا حول أولويات المدينة، فإن تنفيذها الناجح على أرض الواقع غالبًا ما يعتمد على كيفية عمل المدن بفعالية كجزء من شبكات إقليمية ووطنية ودولية أوسع نطاقاً. وينبغي أن يرتكز النهج الأكثر تحوّلًا إلى الحكم المحلي على الربط الشبكي، وكسر الحواجز وتذليل العقبات بين المنظمات، والتكامل والتعاون بين مختلف القطاعات.
«إن إنشاء مدن تركز على المواطنين والمجتمع المحلي وتتمحور حول قضاياهم يضع مسؤولية تحقيق الرؤية المستقبلية للمدينة على عاتق كل مستوى من مستويات الحكومة، وبشكل خاص على قادة المدن الذين يكلفون بالمهمة الصعبة المتمثلة في ضمان توافق الآراء بشأن الاتجاه المستقبلي للمدينة».
وحددت الدراسة أهمية القيادة القائمة على أساس اعتبار المكان جزءا حاسما من الحل، وأن المدن بحاجة إلى إظهار قيادة استباقية قائمة على المكان لاغتنام الفرص العالمية لمواطنيها وإقامة شراكات هادفة ومجدية مع جميع مستويات الحكومة والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية. ويعني هذا على أرض الواقع، أن قادة المدينة هم في طليعة من يصممون الجهود الإنمائية، وأنهم بحاجة إلى إقامة توازن بين المصالح المختلفة للجهات الفاعلة الحضرية المتعددة لتقديم رؤية المدينة المستقبلية.
«القدرة على استقراء المستقبل والبحث والسعي لتحقيق رؤية مستقبلية للمدينة وإقامة تعاون أقوى داخل وخارج حدود المدينة هي من المهارات الأساسية لقادة المدن اليوم»
ركزت الدراسة على أن مفهوم القيادة القائمة على أخذ الاعتبارات المكانية أمر في غاية الاهمية، لأنه يوضح الحاجة إلى إعادة النظر في فهمنا لقيادة الحكومة المحلية اليوم وفي المستقبل. كما توضح أن التركيز على جودة ونوعية الحياة يحفز قادة المدن على إعادة التفكير في النظام ونوع المدن التي نريدها في المستقبل. وتبين الدراسة كذلك أنه من أجل تحقيق التحول المطلوب، يتعين على قادة المدن التغلب على الحواجز التي تحول دون التغيير، وإنشاء ورعاية شراكات جديدة مع مختلف الجهات الفاعلة، وتمكين الأفكار الجديدة - لتقديم الخدمات، وتحقيق الازدهار، واختبار الحلول المبتكرة القادمة من جهات فاعلة خارجية.
«هناك حاجة ماسة إلى قيادة قوية قائمة على أخذ الاعتبارات المكانية، وفي حين يتبنى قادة المدن دورهم كمدافعين عن الحلول المحلية المتكاملة، فإنهم سيحتاجون إلى تطوير مهارات فعالة وكُفأة. وتعد القدرة على الاستقراء والبحث والسعي لتحقيق رؤية المدينة المستقبلية وصياغة تعاون أقوى داخل وخارج حدود المدينة من المهارات الأساسية لقادة المدن اليوم «.
وتمثل هذه الدراسة مساهمة مهمة في النقاش الدائر والمستمر حول حوكمة المدن الذكية، التي تبرهن على ضرورة أن تبدأ استراتيجيات المدن الذكية من القاعدة المعرفية للمدينة، ومن مجتمعها ومن أصحاب المصلحة. إنهم بحاجة إلى اعتماد استراتيجيات حوكمة ابتكارية تمكن من الابتكار من خلال العمل من القاعدة إلى القمة والتجريب والتخطيط التعاوني وممارسات الشراكات مع جميع الاطراف وأصحاب المصلحة، كما أنهم بحاجة إلى البناء على الخصائص المحلية التي تمنحهم ميزة نسبية من أجل إنشاء مدينة ذكية.