عطية محمد عطية عقيلان
نصح المنجمون الخليفة المعتصم بعدم غزو الروم لفتح عمورية، إلا بعد أن ينضج التين والعنب، لأنه لن يستطيع الانتصار في غير هذا الوقت، ولكنه لم يستمع لهم، وخاض الحرب وانتصر فيها بعكس ما توقع المنجمون، وأنشد الشاعر العباسي أبو تمام بهذه المناسبة قصيدة لأهمية الحزم والعزم وعدم الضعف والهوان، وأنه لمن أراد الرفعة والانتصار في الحرب، فإن السيف هو الذي يقول كلمته فيها، وله الحسم، ومنها بعض هذه الأبيات:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ
في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً
بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ
وعبر التاريخ لم يتوقف من يبثون التشاؤم والإرجاف والتنظير ونشر التهبيط والإحباط والتركيز على السلبيات وتضخيمها وتجاهل الإيجابيات وتصغيرها، ونالهم التطور والتحديث، وظهر نوع جديد من المنظرين والعرافين والمنجمين، في مختلف التخصصات، وتعددت مسمياتهم، فهناك ما يسمى بيوتيوبر وآخر مؤثر، وذاك محلل وخبير ومطور ذاتي، وبعضهم يظهر في كل بداية عام كالمنجمين الجدد الذين يتنبؤون بالمستقبل من حياة وموت واقتصاد، مع استمرار بعضهم في تحليل الأبراج طيلة الأعوام، وغالبيتهم مهما اختلفت مسمياتهم وأوصافهم، يجمعهم الاقدام والفتوى وإبداء الرأي والاقتراحات في مختلف الموضوعات السياسية والرياضية والاقتصادية، وأيضًا لديهم ثقة بأن ما يقدمونه يعد تغييرًا في المجتمعات وتطوير لها والارتقاء بها، ولا يختلفون كثيرًا عن المنجمين في عصر الخليفة المعتصم، وإن كانوا أكثر جسارة وانتشارًا في إيصال آرائهم ورؤيتهم، ولم يسلم عوام الناس من عدوى التنظير في كل مناحي الحياة وأصبح جلنا من ضمن دائرة المنظرين وأصحاب وجهات النظر سواء كانت اقتصادية من تحليلنا وتعليقنا على أسعار النفط والغاز والقمح... إلخ، وحتى أصبحنا نعطي رؤية وحلولاً ثاقبة في الحرب الروسية الأوكرانية والانتخابات في كل مكان، مع قدرتنا وبراعتنا في التحليل الرياضي وقوانينه وأخطاء الحكام والمدربين واللاعبين، مع الانتقال بخفة الريشة في النقد الفني للمسلسلات والبرامج وخلافه، ولم تسلم حتى العلوم التي تحتاج إلى دراسة لسنوات حتى تستطيع أن تعطي وصفة أو رأيًا، تم اقتحامها بكل جسارة في وصف الأدوية والأمراض والحلول والعلاجات المضمونة والتي تحتاج إلى تفعيل «الكي» على الرأس فيمن يغررون بالناس عل وعسى يوقفهم عن هذا التضليل. لذا عزيزي القارئ لي ولك، لا يعني وجود نت في هاتفنا وسهولة دخولنا على قوقل وغيره من المواقع، بأن يعطينا القدرة والفهم الصحيح للتنظير وإبداء الرأي، ولاسيما لمن تحتاج إلى مختصين سواء في القوانين أو العلوم أو دهاليز السياسة والاقتصاد، ولا يعني وجود مئات آلاف من المتابعين لك، بأن ذلك يعطيك الحق في الفتوى والجسارة على الطرح، ولاسيما أنه من السهل التغرير بجذب المتابعين سواء بالشراء أو التضليل، والتي تظهر مع كل اكتشاف لصاحب حساب وهمي يستخدم أدوات الجذب سواء صور مؤثرة أو عبارات رنانة، ومن هذه الاكتشافات ما تم أخيرًا عن حساب تحت مسمى نورة آل الشيخ ويضم نحو 300ألف متابع وهو لشخصية وهمية غير حقيقية، ولكن جذب هذا العدد من المتابعين، فلا نغتر بكثرة متابعي الشخص، فليس لها علاقة في صحة رأيه أو تعطيه الحق في الفتوى في كل شيء، مع التأكيد أن الإنسان مهما بلغ علمه واطلاعه يبقى عاجزًا عن فهم أو استيعاب بعض الأشياء، لذا هناك الجواب الكافي والذي استخدمه الإمام أنس بن مالك «لا أعلم» على الرغم من علمه الغزير، وقول سقراط «إني أعرف شيئًا واحدًا، وهو أني لا أعرف شيئًا»، لذا لن يعيبنا أن نفعّل الإنصات والتعلم مهما كانت ثقافتنا ولن ينقصنا قول «لا أعرف»، وكما قال الفقيه ابن قتيبة» لا يزال المرء عالمًا مادام في طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم، فقد بدأ جهله».