د.عبدالله بن موسى الطاير
تسبب «الإذلال» في حرب عالمية ثانية، وفي تدمير مدينتين يابانيتين هما هيروشيما ونجازاكي، وفي حروب أمريكية استمرت لأكثر من عشرين عاماً، فهل سيتسبب إذلال الرئيس بوتين والأمة الروسية في تدمير أوروبا والحضارة الغربية والإنسانية؟
دعونا لا نستبق المقدمات إلى الخواتيم، لنقرر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا زال يتصرف على أنه ند للناتو والغرب أجمعين، ولذلك فإنه يتمتع إلى حد ما باتزان ومسؤولية في التحكم بالأسلحة التي تدخل إلى ميدان حربه على أوكرانيا. لكن الخطاب الغربي وبخاصة الأمريكي والبريطاني، حتى منذ ما قبل الحرب، تعمد إهانة روسيا وبخاصة الرئيس بوتين في الخطاب الذي هيأ به الرأي العام لما يجري حالياً في أوكرانيا؛ فالرئيس الأمريكي جو بايدن لم يشر إلى روسيا يوماً في خطابه المناهض لها، وإنما باحتقار إلى «بوتين»، وذلك هو الخطاب الذي تفشى في الإعلام الأمريكي تحديداً والليبرالي على وجه الخصوص.
ودعونا نعود إلى دروس التاريخ، لنتذكر الخطاب الذي أضرم الحرب العالمية الثانية، وعلى أية مقومات تم تأسيس ذلك الخطاب؟
لقد عانى الشعب الألماني الذي مزَّقته الحرب من إذلال واسع النطاق، ففي حين قاتلوا على جبهتين؛ انتصروا بشكل بطولي في الشرق، حيث هزموا الجيوش الروسية سيئة التجهيز، مما اضطر لينين توقيع معاهدة بريست ليتوفسك عام 1918 التي تنازل بمقتضاها عن مساحات شاسعة من الأرض لتأمين السلام، حتى يتمكّن من متابعة الثورة البلشفية، لكن الألمان هزموا شر هزيمة في الغرب الأوربي، وأجبروا على الاستسلام بتوقيع معاهدة فرساي، للسلام بينَ الحلفاءِ والقوى المرتبطة وبينَ ألمانيا، في متصف عام 1919م. لم يكن عامة الشعب الألماني طيلة الحرب على اطلاع بهزائمه في الغرب، وإنما كانت انتصارات الشرق هي التي يتم تسويقها له، وعندما ظهرت الحقيقة انكشفت الستُر عن شعب مرتبك، مهان من قيادته، محبط من الحال التي وصل إليها، ووضع اقتصادي متدهور حد الكساد. لقد شعر الألمان بالإهانة والخذلان، وتعاظم شعورهم بالانكسار، وكانوا في مسيس الحاجة لمن يلتقطهم من قعر اليأس بخطاب مفعم بالأمل ووعود التمكين، لقد كانوا بحاجة إلى القائد الكاريزما، بل الممسوس بجنون العظمة ليجلب لهم قدرًا من الأمل، ولم يكن ذلك المنقذ سوى أدولف هتلر، الذي وجدوا فيه شخصية مثالية لإنقاذ شعب محطم. وعدهم هتلر بالكثير من الأماني المشروط تحقيقها بالحرب والمعاناة والموت. وهكذا بنى هتلر خطابه على شعور الألمان بالإهانة ليقود بهم حرباً عالمية ثانية مدمرة.
على مشارف نهاية تلك الحرب، تجرعت أمريكا الإهانة عندما هاجمت وحدات انتحارية يابانية القاعدة الأمريكية في بيرل هابر بجزر هاواي يوم 7 ديسمبر 1941م، ذلك الشعور بالإهانة صوّغ استخدامها السلاح النووي لأول مرة في التاريخ على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945م، ولولا شعور أمريكا بالإهانة أمام جيشها وشعبها وشعوب العالم لما وجدت مبرراً مقبولاً داخلياً لاستخدام السلاح الذري.
ومرة أخرى، وفي ذروة التمكين والعلو، بعد انتصارها في الحرب الباردة، وتنصيبها قطباً أوحد في قيادة القرار العالمي، شعرت أمريكا في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م بالضعف غير المسبوق أمام خصم يمتلك موارد بدائية، اختراق حدود دولة كانت تعتبر نفسها لفترة طويلة غير قابلة للاختراق. لقد كانت تلك الهجمات إهانة بررت لأمريكا حروب الثأر اللاحقة على الإرهاب التي انتهت بانسحاب أمريكا من أفغانستان عام 2021م بعد مئات الآلاف من الضحايا وحرق ترليونات الدولارات.
إن أحد أقوى الدوافع على العنف غير المنطقي والخارج عن المألوف يتمثَّل في الطريقة التي تعرض بها أمة من الأمم أو مجموعة من البشر تجربة الإذلال التي تعرضت لها، حيث يتطلب الأمر قائداً مهووساً يوظِّف مشاعر القهر وإحساس الأمة بالخزي ليعيد توحيد شعبه، وليبدأ بهم حرب انتقام مدمرة بغض النظر عن نتائجها.
نشوة الإذلال المتنامية في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي ستولد، فيما لو هزم الروس، شعوراً داخلياً بالغبن والإذلال للأمة الروسية التي تملك من الأسلحة الذرية ما يكفي لتدمير الكون سبع مرات. فهل دول أوروبا والناتو تحديداً والعالم يطيق الثمن الباهظ لإذلال روسيا؟