د.سالم الكتبي
تابعت في الآونة الأخيرة تقارير إعلامية غربية تتحدث عن خطاب مفتوح بتوقيع «دبلوماسيين بارزين سابقين، بينهم وزراء خارجية ودفاع بريطانيين» يحذّرون فيه من نفاد الوقت للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وأن المفاوضات الجارية في فيينا تتجه إلى «مأزق مدمر» وحثوا كل من واشنطن وطهران على إبداء المزيد من المرونة. وطالب هؤلاء واشنطن بشكل صريح بالاستجابة للمطلب الإيراني الخاص بإلغاء تصنيف الحرس الثوري الإيراني من قوائم الإرهاب الأمريكية، ورفع العقوبات المفروضة عليه، معتبرين أن السماح للولايات المتحدة وأوروبا بإهدار فرصة نزع فتيل أزمة نووية في الشرق الأوسط سيكون بمنزلة «خطأ فادح».
هذا الخطاب يكشف عن أزمة حقيقية لدى النخب السياسية الغربية، فالرسالة المفتوحة التي نسقتها شبكة القيادة الأوروبية، تؤكد أن هؤلاء الدبلوماسيين السابقين الذين ينتمون إلى 24 دولة ومن بينهم وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو، ينظرون إلى الأمور من زاوية واحدة، ويتعاملون مع الملف النووي الإيراني من منظور أحادي ضيق للغاية يتعلق بامتلاك إيران لقدرات نووية تسليحية رغم أن خطر إيران الأساسي لا يرتبط بالتكنولوجيا النووية، بل يرتبط بخططها للتوسع والهيمنة إقليمياً، ورغم أن الجميع يتناسى خطر ملف البرنامج الصاروخي الإيراني، الذي لم يعد مدرجاً فيما يبدو ضمن أولويات الاهتمام في علاقات إيران بالقوى الغربية.
البيت الأبيض من جانبه أعلن مؤخراً أن إيران على بعد أسابيع فقط من إنتاج المواد اللازمة لصنع قنبلة ذرية، ولا أعتقد أن هذه «المعلومة» تنطوي على جديد يذكر في ضوء متابعتي لتطورات البرنامج النووي الإيراني، حيث تراكم إيران قدرات نووية في مجال التخصيب منذ انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي منتصف تعام 2018، وبالتالي فإن من غير المبرر التخلي عن مناقشة مطالب أمريكية مهمة مثل البرنامج الصاروخي والتوسع الإقليمي الإيراني خشية ألا يكون الوقت في صالح الولايات المتحدة!
لا شك أن امتلاك إيران قدرات نووية تسليحية يمثّل تطوراً خطيراً على صعيد موازين القوى الإقليمية، ومن شأنه أن ينتج تغيرات جيوإستراتيجية خطيرة، ولكن ذلك لا يعني بالمقابل انتفاء خطورة عوامل أخرى مثل التمدد والهيمنة الإقليمية فضلاً عن خطر برنامج الصواريخ الباليستية التي تمثل - برأيي - مصدر خطورة لا يقل عن القنبلة النووية، ليس فقط لأنه أداة التوصيل الناقلة للخطر، ولكن أيضاً لأن هذه الصواريخ قد أثبتت أنها مصدر تهديد خطير يؤرق جميع حلفاء الولايات المتحدة الشرق أوسطيين.
وأعتقد أن إيران باتت تنظر إلى برنامج الصواريخ الباليستي باهتمام يفوق الحصول على قدرات نووية، لأن التجارب والخبرات أثبتت أن «السلاح النووي» ربما يمثِّل رادعاً مهماً في إطار موازين القوى، ولكنه غير قابل للاستخدام من الناحية الفعلية، بينما تمتلك الصواريخ الباليستية قدرة عالية على التأثير والتهديد وردع الخصوم مع إمكانية استخدامها بشكل تقليدي على خلاف القدرات النووية، بمعنى أن الأخيرة هي سلاح ردع بالأساس، بينما الصواريخ الباليستية هي سلاح هجومي توظّفه إيران في تحقيق أهدافها الإستراتيجية إقليميًا ودولياً، وهذا ما حدث بالضبط في استهداف القواعد العسكرية الأمريكية بالعراق مرات عدة.
ولا شك أن امتلاك إيران برنامج متطور للصواريخ الباليستية وترسانة فعَّالة لأجيال المسيرات التي توزعها بالمجان على الأذرع الميليشياوية التابعة لها في المنطقة، يوفران لها هامش مناورة كبير في التفاوض بأريحية على البرنامج النووي، بمعنى أن بإمكان المفاوض الإيراني تقديم تنازلات فيما يخص مخزونات اليورانيوم وقدرات التخصيب وغير ذلك من تفاصيل تقنية وفنية ، طالما أن التكنولوجيا والمعرفة باتت متاحة لديها ولا يفصلها عن الإنتاج الفعلي للقنبلة سوى قرار سياسي، ناهيك عن أن تركيز المفاوضات على الملف النووي يوفر لإيران أيضاً انتزاع مكاسب أخرى مثل إلغاء تصنيف الحرس الثوري ورفع العقوبات وفوق ذلك كله الإفلات بقدراتها النوعية ومصادر التهديد الأخرى، التي تضمن لها تحقيق أهدافها الإستراتيجية بكفاءة.
والمؤكد في ذلك أن إيران تتابع عن كثب مجريات الحرب في أوكرانيا، وكيف أن الطائرات من دون طيار باتت تلعب دوراً حيوياً في المواجهات العسكرية، والصراعات بين الدول، ناهيك عن أنها قد قامت بنشر الصواريخ والمسيراّت على التنظيمات والميليشيات الموالية لها، وجعلت منها رقماً صعباً في معادلات الأمن الشرق أوسطية، وهذا ما يدفع طهران للتمسك بإستراتيجيتها القائمة على حصر مفاوضات فيينا حول الملف النووي وجعله محوراً للنقاش وما يعتبره الغرب «تنازلات» سيحصل عليها في حال التوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي، في حين أن مكسب طهران الأكبر والأخطر هو إبقاء مصادر القوة الجديدة لديها بعيداً عن أي تنازلات أو أجندة تفاوضية.