صبار عابر العنزي
«الغبقة» مفردة تدل على وليمة رمضانية تقام في كل بلدان الخليج وهي من المفردات والكلمات التي أكدها الزمن عبر جريانه الطويل ضمن ما يسمى باللهجات الشعبية المتعارف عليها لكل مدينة وقرية، حتّى صارت صبغة تميّز فيها البلد العربي عن الآخر، ليجتمعوا في النهاية مع قاسمهم المشترك في اللغة، فجمعها غبائق والغَبُوقُ هو ما يُشْرَب ويُحلَبُ بالعشيِّ من الإبل ويقدم للضيوف ، خِلاف الصَّبُوح وبحسب بعض الباحثين في التراث، فإن كلمة «الغبقة» مشتقة من لفظ «الغبوق»، وهي من مفردات اللغة العربية الفصحى، و»تعبر عما يتناوله المرء ليلاً من الحليب والتمر»...
والغبقة وليمة تقام بعد صلاة التراويح وقبل السحور, أما أصناف المأكولات التي تقدم قديماً خفيفة مثل النخي والهريس والفطائر والسلطات، وبعض الحلويات الشعبية إلى جانب المشروبات مثل الشاي العادي والشاي بالزعتر والقهوة العربية والقهوة الحلوة (شراب اللوز) وغيرها، كما أنه لا يشترط احتواء «الغبقة» على كل هذه الأصناف، إنما كل يقدمها بحسب قدرته...
فهل تجوز الغبقة في رمضان؟ هي عشاء رمضاني غالباً ما يكون قبل العشر الأواخر، وعادة من عادات أهل الخليج ، يتم فيها صنع وجبة العشاء ما بين الإفطار والسحور، وتحضير المسابقات، والأغاني الشعبية، واللباس الشعبي، وغيرها والحقيقة أنها وليمة، والولائم من العادات التي الأصل فيها الإباحة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم: فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع , وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى...
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً}. ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه , ولا يخفى التأكيد على خلو هذه الولائم من المحرمات كالإسراف والتبذير، أو التفاخر بها، أو تضييع ليالي رمضان في اللهو واللعب...
والغبقة كلمة عربية أصيلة من حياة البادية، ويرجع أصلها إلى «الغبوق» والغبوق هو حليب الناقة الذي يشرب ليلاً، وعكسه الصبوح الذي يشرب من حليب الناقة صباحاً، فيما يقول البعض، إن الغبوق وجبة خفيفة تؤكل في المساء..
وبحسب المؤرخ البحريني خليل محمد المريخي فإنها لقاء اجتماعي بين الأهل والمعارف، ولربما يمكن القول إن هناك غبقات للرجال وأخرى للنساء وثالثة للشباب، يجتمعون فيها لتناول الوليمة ولتبادل الأحاديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض والترفيه عن النفس. وفي السابق، لا يشارك أحد من الغرباء في الغبقة، فكانت مخصصة للمعارف فقط، وكانت تقام عند واحد من أهل الحي؛ كلٌ حسب الاتفاق على الموعد، وهي باقية حتى اليوم كلقاء سمر رمضاني يحبه الصغار والكبار...
وتتنوع أطباق الغبقة، لكنها تشمل بشكل أساسي الأطباق الخليجية الشعبية الشهيرة كالثريد والهريس، ومن الأطباق التي كانت تشتهر بها في السابق «البرنيوش» أو (المحمّر) وهو الرز المطبوخ بالسكر أو الدبس، فيما يفضل البعض تقديم «المجبوس» وبعضهم يفضل «المشخول» وفي الغالب، تخصص تلك الأطباق للغبقة حتى لو قدمت على وجبة الفطور، وتقدم أيضاً أطباق الحلويات مثل اللقيمات أو النشاء أو العصيدة أو البلاليط بالإضافة إلى التمر والشاي والقهوة...
والغبقة عادة متوارثة عند أهلنا في الخليج، ويطلقون على شهر رمضان المبارك شهر الغبقات، لما فيه من ولائم يجتمع فيها الأقارب والأحباب، وقد تطورت لتصير عرفاً جميلاً يتناقله الأحفاد، ففيها الكثير من الخير والبركات التي ارتبطت بشهر الخير وصلة الرحم، وتحتوي تلك الولائم على عدد أنواع متعددة من المأكولات المختلفة والبسيطة التي تعطي ذلك الطقس الرمضاني صبغته ولكنته الخاصة...