نشرت مجلتنا الثقافية العامرة هذه، في عدد الأسبوع الماضي، مقالاً عن الأديب الكبير وأستاذ الصحافة الأدبية السعودية الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، كان يفيض بالوجدانية فيصل رجعه لقلب القارئ، حمل اسم «الإمضاء الأخير.. أستودعُكم الله»، حيث وجدتني بعد أن فرغت من قراءته أردد قائلاً: «حتى لو ترجّلت عن الإشراف على تحرير المجلة الثقافية، فنحن معشر قرّائك ومحبيك لن ندعك تغيب عن وجداننا، ولن نتركك تودع الثقافة بأي حال كان». فأنت وأن تركت المنصب الوظيفي إلا أن حضورك وخدمتك للثقافة السعودية قد انصبّت في عقل ووجدان كل أديب ومثقف سعودي.
ومردّنا في ذلك، أنه خلال العقدين الماضيين، ومع الحضور الطاغي لمواقع وبرامج التواصل الاجتماعي، لم يعد يلقى الأدب ذلك الاهتمام الذي كان يلقاه في ماضي الأيام. ومن هنا؛ فعندما بذل الصديق الدكتور إبراهيم التركي مع باقي رفاقه في هيئة تحرير مجلتنا الثقافية الغراء، جهدًا نوعيًا من أجل ضمان وجود منصة إعلامية ورقية تهتم بالأدب والثقافة على عمومها، فقد كانوا جميعًا يقدمون خدمة نوعية للمثقف السعودي، سوف يسطرها التاريخ بمداد من ذهب.
ومما يحسب للدكتور التركي خلال وجوده في منصبه -وهذه معلومة أذكرها للمرة الأولى- إنه كان يمثِّل حائط صد للحيلولة دون لحاق أي ضرر أو إشكال بأي فرد ممن يكتبون أو يشاركون بمواضيع أدبية أو ثقافية في المجلة.
وليأذن لي الصديق أن أذكر حادثة جرت لي معه قبل بضعة أشهر، إذ نشرت حينها مقالًا تناولت فيه أديب إيطاليا في القرون الوسطى، دانتي إليغري، وأنهيت مقالي بإعلاني عن عزمي أن أقدم ترجمة جديدة منقحة للجزء الأول من ملحمته الشعرية الخالدة وأعني بها «الكوميديا الإلهية»، في قسمها الأول يحمل اسم «الإنفيرنيو» أو «الجحيم». الذي يحكي فيه الشاعر عن رحلته التخيلية التي دخل فيها النار بصحبة مرشده الشاعر الروماني الشهير «فيرجل»، لينتقل عقبها إلى «المطهر»، في طريق رحلته إلى «الفردوس».
ثم ما لبِثْتُ أن أرسلت ترجمتي المطولة للقسم الأول من هذه الملحمة للصحيفة، ليتواصل معي الدكتور التركي عقبها ليستأذنني بكل أدب ورقي في اختيار المفردة في الموافقة على عدم النشر، أو النشر في حال أصررت على ذلك مع طلب مغلف بكل حنو أخوي إن أمكن في ألا تنشر ترجمة الملحمة الشعرية، كي لا يتم تحميلها إسقاطات ثيولوجية قد يطالني منها سوء.
حينها وبعد أن وافقته وأخبرته في التوقف عن النشر، وجدتني اتبسم، فهو بموقفه هذا قد أعادني للوراء لأكثر من عقدٍ من الزمان، حين كنت أكتب مقالاً أسبوعيًا لصحيفة الشرق التي كان يرأس تحريرها آنذاك أستاذنا في الصحافة، أخي أبو عبدالله الأستاذ قينان الغامدي، الذي كان يمارس معنا نفس الحرص الأخوي إن لم يكن الحنو الأبوي الذي كان يحرص من خلاله على ألا ينال كتابه أي أذىً كان.
والآن وبعد قرار أخي الدكتور إبراهيم، في مغادرة منصبه، أجدني أقول؛ سواء بقيت أو ذهبت فسيظل حضورك الزاهي الطاغي الزاكي يحتل مساحة كبرى من وجدان المثقف السعودي، ناهيك عن صنوه العربي.
كما يحضرني قول حسان بن ثابت حين نفرت ناقته جراء خوفها من كومة الحجارة التي أهيلت على جسد ربيعة بن مكدم الكناني، الذي كان يقدره العرب لرجولته وشجاعته الحقة، فكانوا يلقبونه «بحامي الظعائن حيًا وميتًا»، وكان العرب يعقرون على قبره، ولم يعقر على قبر أحد غيره وفقًا لما رواه ابن عبدربه في العقد الفريد.
حيث قال ابن ثابت عن ذلك واصفًا ذلك الحرج الذاتي الذي أشعرته به ناقته، جراء تصرفها الغريزي، والتي لم تكن تعي - كمخلوق حيواني- تلك المكانة العلية التي كان يحتلها ربيعة ابن مكدم في وجدان كل عربي:
نَفَرَت قُلوصي من حجارةِ حرةٍ
بنيت على طلقِ اليدينِ وهوبِ.
لاتَنفُري ياناقَ منه فإنَّهُ
شَرّابُ خمرٍ مسعرٌ لحروب
لا يَبعُدَنَّ ربيعةُ بن مكدَّمٍ
وسقى الغوادي قبره بِذُنوبِ
إلى أن يصل فيها لقوله الذي اعتذر فيه لروح ربيعة، عن عدم قدرته على عقرها -وأعني بذلك ناقته - جراء وجوده في صحراء جرداء تبعد مئات الأميال عن مسقط راسه، حيث يقول:
لولا السِّفارُ وبعدُ خِرقٍ مَهمَهٍ
لتركتها تحبو على العرقوب
وأجدني أقول: بل أنا وغيري من أدباء ومثقفين سعوديين لو أتيح لنا لعقرنا كل نياقنا تقديرًا لهذا الرجل الذي جسَّد التعبير الأسمى لمفردة «الرجولة» و»الإخاء»، وأعني به الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، الذي قدَّم للصحافة الثقافية جلَّ عمره، ولجهده الصادق والتاريخي في خدمة الثقافة والمثقف السعودي على الدوام.
** **
- حسن مشهور