محمد سليمان العنقري
لم تكن جائحة كورونا تهديداً عادياً للاقتصاد العالمي، فآثارها ستمتد لسنوات طويلة، وبقدر ما أدى الإقفال الكبير ببدايتها عام 2020 بانهيار الطلب على السلع وانعكس بديهياً بانخفاض حاد بأسعارها إلا أن مبدأ القاعدة المعروفة لكل فعل رد فعل موازٍ له بالقوة معاكس له بالاتجاه هو ما يواجه عالمنا اليوم، فأسعار الطاقة عموماً التي هوت لمستويات متدنية جداً، بل إن الخام الأمريكي سجل أسعاراً سالبة في بداية الإقفال الكبير تغيرت اتحاهاتها سريعاً لتقفز لمستوياتها الحالية المرتفعة بنسب مختلفة ما بين النفط الذي ارتفع من العام الماضي حتى وقتنا الحالي بنحو 70 بالمائة بينما الغاز والفحم الحجري تجاوزت ارتفاعات أسعارها خلال الفترة نفسها بنحو 300 بالمائة، وهو ما يعكس ارتفاعاً حاداً بالطلب بعد سياسات تحفيزية اتخذتها جل دول العالم لإنقاذ اقتصاداتها، ولكن بالوقت ذاته كشفت عن خلل كبير في مؤشرات بنيت عليها خطط مزيج الطاقة لدى الدول الكبرى اقتصادياً وأيضاً من حيث حجم الاستهلاك والطلب على الطاقة.
فقد سارعت الدول الأوروبية تحديداً للتركيز على زيادة إنتاج الطاقة المتجددة التي تتأثر بعوامل الطقس بوتيرة أسرع من القدرة على التحوط من انخفاض إنتاجها إذا تزامن مع أي نقص بإمدادات الطاقة التقليدية وتحديداً الغاز الذي يستحوذ على النسبة العظمى من اعتماد أغلب دول العالم بتوليد الكهرباء، وهو ما يحدث بالفعل حالياً، إذ إن الحرب الروسية الأوكرانية أسهمت بمزيد من الضغط على اقتصادات أوروبا بل والعالم حيث تتجه دول القارة العجوز التي تستورد 70 بالمائة من الغاز الروسي المصدر والذي يغطي 40 بالمائة من احتياجها إلى خفض استيراد الطاقة من روسيا بشقيها الغاز والنفط مما أسهم برفع الأسعار للغاز لمستويات عالية جدًا وكذلك للنفط وإن كان بنسبة أقل بكثير، وهو ما انعكس على تغيير جذري بتوقعات نمو اقتصاد دول منطقة اليورو بخفضه بقرابة 40 بالمائة عن التقديرات السابقة لصندوق النقد الدولي، فألمانيا رابع اقتصاد عالمي وأكبر دول أوروبا اقتصادياً تتوقع الحكومة فيها انخفاض تقديرات النمو من 3.6 إلى 2.2 لهذا العام مع ارتفاع بالتضخم لمستوى 6.1 بالمائة، فالغرب عموماً بما في ذلك أميركا رغم إنها من أكبر منتجي الطاقة بالعالم اتخذوا خطوات تحت توجه حماية المناخ ساهمت برفع أسعار الطاقة الأحفورية لديهم، كما أن أميركا هي من يضغط على دول عديدة باتجاه وقف استيراد النفط والغاز من روسيا إضافة لعقوبات واسعة اتخذتها ضد موسكو أسهمت بإشعال التضخم عالمياً مع العوامل الأخرى كتعطل سلاسل الإمداد وارتفاع أجور الشحن دولياً التي أفرزتها تداعيات جائحة كورونا.
لكن بالمقابل، فإن تركيز الدول الغربية ينصب على اعتبار أن ارتفاع أسعار النفط سبب مشكلة التضخم، فكما قال وزير الطاقة سمو الأمير عبدالعزيز بن سلمان في حديثه قبل أيام بمؤتمر المرافق العالمي من أبوظبي «لماذا ينصب التركيز على أسعار النفط المرتفعة وليس على ارتفاع تكلفة البنزين أو الديزل أو غيرهما». وأوضح أنهم يتكلمون عن ارتفاع أسعار النفط بنسبة 70 بالمائة منذ عام تقريباً لمائة دولار والذي كان أقل أنواع الطاقة ارتفاعاً بينما لا يتحدثون أبداً عن الغاز والفحم اللذين ارتفعا بنحو 300 بالمائة، وأبدى قلقه من واقع نظام الطاقة القائم بقوله «إن العالم بحاجة إلى العمل بشكل جماعي ومسؤول»، فالغرب حقيقة عند النظر لواقع أسعار الطاقة لديهم يتضح بأن أزمتهم من صنع أيديهم عندما اتخذوا قرارات خفضت استثمار شركات الطاقة لديهم في الوقود الأحفوري واتجهوا سريعاً للطاقة المتجددة وركزوا اعتمادهم على دولة واحدة كمصدر للطاقة رئيس لسوقهم والتي يقفون اليوم على أعتاب حرب محتملة معها من خلال دعمهم لأوكرانيا، ولكن عندما تخاطب حكوماتهم بل وإعلامهم وشعوبهم حول ارتفاع أسعار الطاقة لا يتحدثون إلا عن النفط، فضعف الاستثمارات في هذه السلعة يدفع ثمنها العالم اليوم والغرب على رأس القائمة، بل إن عودة الاقتصاد العالمي للتشغيل الكامل وخصوصاً قطاع الطيران الذي يستهلك يومياً مليوني برميل فإن الأسعار مهيئة للارتفاع أكثر، وهو ما أشار له وزير الطاقة أيضاً بأن «السعة الإنتاجية للطاقة تستنفد على جميع المستويات، بما في ذلك الاحتياطي الإستراتيجي». فتحويل الأنظار إلى أن تحالف أوبك بلس وكأنه المسؤول عن ارتفاع أسعار الطاقة هو تضليل للمستهلك بأوروبا وأميركا، لأن أوبك هي من أعاد التوازن لسوق النفط ولا يوجد شح بالإمدادات إطلاقاً، ودول هذا التحالف هي من استمرت بضخ الاستثمارات لزيادة الطاقة الإنتاجية والاستكشافات والتكرير بعكس الغرب الذي قلصها كثيراً ووضع اشتراطات وأنظمة رفعت من تكلفة إنتاج المشتقات كالبنزين والديزل وغيرها كثيراً بما يصل إلى 250 دولارًا ثمناً للبرميل من كل نوع من المشتقات، إضافة لإغفالهم الحديث عن ارتفاع أسعار الغاز الذي لا يندرج تحت مسؤوليات أوبك وليس من اختصاصها بل يمثل ارتفاعه بأكثر من ضعفين عمّق مشكلة ارتفاع أسعار الطاقة لديهم مع الفحم الحجري.
أثبتت الوقائع أن دول أوبك بلس تقوم بكامل مسؤولياتها في إمدادات النفط وتزيد الإنتاج شهرياً، واتضح للعالم بأن سياسة الهروب للأمام من بعض المستهلكين بالغرب والتنصل من المسؤولية وإلقاء التهم على تحالف أوبك بلس لن يحقق علاجاً لخفض تكاليف الطاقة، فسوقها ضخم ومسؤولية المستهلكين الكبار بالغرب تحديداً كما هي مسؤولية المنتجين بإيجاد التوازن والاستدامة به، وذلك من خلال التعاون بين كل الدول لأن المصلحة مشتركة، فدول أوبك تركز على توازن السوق ويعنيها استدامة نمو الاقتصاد العالمي واستقراره والحد من التضخم فيه الذي يؤثر على منتجي النفط كما المستهلكين من خلال ارتفاع فاتورة الواردات للسلع والخدمات، فوزير الطاقة اختصر المشهد الدولي بسوق الطاقة بقوله «من السهل جدًا أن تلقي باللوم على الآخرين، لكن الصعب أن تحاسب نفسك وتعيد التفكير في منهجك»، فلابد أن تعود الشركات الغربية لضخ استثمارات لزيادة إنتاج النفط والغاز، وأيضاً من المهم أن تعيد دول الغرب النظر في الأنظمة التي تطبقها مما يرفع أسعار المشتقات لأنها سلع بأسواق تختلف عن سوق النفط الخام من حيث موسمية الطلب وعوامل التأثير بأسعارها، إضافة لحل الملفات السياسية التي تعيق تقدم نمو الاقتصاد العالمي كالحرب الروسية الأوكرانية وكذلك الحرب التجارية من قبل أميركا ضد الصين، فجيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميريكي قال إنه عازم على كبح التضخم لكن هناك أمور خارج سيطرته، وهو ما يؤكد ضرورة حل الملفات السياسية في أوروبا وكذلك تسريع حلول تعطل سلاسل الإمداد عالمياً.