المشكلة التي أرى أهمية مناقشتها في هذا السياق تتمثَّل في وجود آلاف الروايات وآلاف الروائيين
الرواية ليست وثيقة اجتماعية وليست تصويراً حرفياً للواقع وليست من وظائفها الحقيقية المبالغة في الحديث عن المسكوت عنه أو جعله هدفها الأول الرواية الحقة هي التي تقدم عالماً موازياً للواقع وتمتاح منه
الرواية سرد تخييلي، وهي من أكثر الأجناس الأدبية حضوراً وانتشاراً منذ عقود على مستوى التلقي والإبداع والاهتمام من قبل الناشرين ومعارض الكتب والقائمين على الجوائز الأدبية، فالرواية لها جماهيرية طاغية من قبل شرائح مختلفة من المجتمع؛ وتبعاً لذلك صحبها حركة نقدية واسعة، إذ أصبح للرواية نقاد مخلصون لها، وعرفوا بها على المستوى العالمي والعربي والمحلي.
ولو حاولنا تفسير هذا الإقبال على مستوى القراء، سنجد أن الرواية خاصة، والقصة عامة، تستقطب الاهتمام؛ بسبب بنيتها الحكائية، فالإنسان بطبعه شغوف بالحكايات، فمنذ صغره نجده متعلقاً بحكايات الآباء والأجداد، حتى في المراحل السابقة كان الإنسان شغوفاً بما يقدمه الحكواتي من قصص شعبية على مر العصور، وحلت السينما والمسرح والتلفزيون مكانه، إذ يقدمون الحكايات من خلال الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، وهي في الأصل تقوم على الفنون السردية المختلفة.
ووجدت شريحة من القراء، ومن مختلف الفئات، في الرواية بغيتهم، فهي تنتمي إلى الأدب من جانب، وتصور الحياة وفق رؤى خاصة بالكتّاب من جانب آخر، يضاف إلى ذلك وجود اتجاه واضح في الفن الروائي يهتم بالحديث عن المسكوت عنه في المجتمعات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك اتجاهاً روائياً حاضراً، يتسم بالمباشرة في التناول، فلغة السرد بدائية، والحوار عامي، والموضوعات مثيرة، تستهوي فئة الشباب خاصة؛ فأقبلت شريحة من القراء على هذا النوع من الروايات، بوصفها وثائق اجتماعية، وليست نصوصاً أدبية.
وأشير هنا إلى أنه انتشرت منذ عقود في الدراسات النقدية الروائية مقولة: عصر الرواية أو زمن الرواية، حتى أن هناك من قال: الرواية ديوان العرب. وأرى أن مثل هذه الآراء تعبر عن فكرة صراع الأجناس الأدبية، وصراع النقاد، فلدينا نقاد شعر ونقاد رواية. ومن وجهة نظري أميل إلى فكرة تكامل الأجناس الأدبية وتداخلها.
والسؤال المهم الذي يفرض نفسه، منطلقاً من مشهدنا النقدي المحلي، ما القيمة الفنية الحقيقية لهذا النتاج؟ وبداية أشير إلى أنّ النتاج الروائي في بلادنا قارب ثلاثة آلاف رواية، وفي كل عام يصدر ما يقارب مائتي رواية، أي أنه في كل يومين تصدر رواية تقريباً، ويمكن الإفادة من جهود الأستاذ خالد اليوسف في رصد الحركة الأدبية والثقافية في بلادنا وتتبعها.
وسأشير هنا إشارة موجزة إلى تاريخ الرواية المحلية، إذ كانت رواية (التوأمان) (1349- 1930م) لعبد القدوس الأنصاري هي الرواية الأولى في بلادنا، وتمثِّل بداية المرحلة الأولى، أما رواية (ثمن التضحية) (1378- 1959م) لحامد دمنهوري فكانت بداية المرحلة الثانية، وهي الرواية الفنية الأولى في الأدب الروائي السعودي. ونلحظ أن عدد روايات المرحلة الأولى لا يتجاوز بضع روايات، ومعظمها تمثل البدايات: زمنياً وفنياً.
وظلت الرواية السعودية إلى ما قبل عام (1411هـ) على الهامش، فعدد الروايات الصادرة خلال أكثر من ستين عاماً لا يصل إلى مائة رواية، والدراسات النقدية قليلة، واهتمام القراء قليل أيضاً، فكان الشعر هو الفن الحاضر في الساحة الثقافية دون مزاحمة حقيقية من الأجناس الأخرى.
أما بعد تحرير الكويت فشهدت الرواية السعودية تحولات كبرى استجابة للتحولات الاجتماعية، وبدأ الاهتمام بالرواية على مستوى القراء والنقاد يأخذ مساراً مختلفاً، وظهرت تجارب لفتت النظر إلى الرواية المحلية، وهي محطات في مسيرة الرواية السعودية، منها روايات تركي الحمد، وهنا لا أتحدث عن الجانب الفني، ثم جاءت رواية (شقة الحرية) لغازي القصيبي، لتمثل مرحلة مهمة في الرواية السعودية، وتتابعت التجارب التي لفتت النظر إلى الرواية السعودية، وكانت (بنات الرياض) لرجاء الصانع، مرحلة مفصلية في الرواية السعودية، بغض النظر عن الجوانب الفنية، وتبعها إقبال كبير من شرائح مختلفة من الكتاب والكاتبات في بلادنا لكتابة الرواية، فأقبل على كتابتها فئة من كتاب القصة القصيرة، والشعراء، وفئة الشباب من الجنسين، وأساتذة الجامعات، والسفراء، والأمراء، وأشير هنا إلى تجربة الأميرة مها الفيصل، والأمير سيف الإسلام بن سعود. وهذا الإقبال من شرائح مختلفة من المجتمع أمر مشروع ولا غبار عليه، بل أجده أمراً إيجابياً في مشهدنا الثقافي، ويستحق التقدير من حيث المبدأ؛ وتبعاً لذلك استجاب القراء لهذا النتاج، فبحثوا عنه وشجعوه، فكانت الرواية الهدف الأول لهم في معارض الكتب، واستجاب النقد بمختلف اتجاهاته لهذه الحركة الروائية، فنالت الرواية النصيب الأكبر في الرسائل الجامعية، والجوائز الأدبية والندوات والمؤتمرات.
والمشكلة التي أرى أهمية مناقشتها في هذا السياق، تتمثل في وجود آلاف الروايات وآلاف الروائيين، منها تجارب امتدت، مثل: غازي القصيبي، ورجاء عالم، ومحمد علوان، وإبراهيم الناصر، وعبده خال، ويوسف المحيميد، وعواض شاهر، وغيرهم كثر، من الذين نشروا مجموعة من الروايات، وما زال بعضهم ينشر حتى يومنا هذا، وهناك أصحاب الرواية الواحدة. ولو أردنا أن نتحدث عن الروايات الحقيقية وسط هذا العدد الكبير من الروايات والكتاب، سنجد أن الحكايات كثيرة والروايات الحقيقية أقل، فهناك أعمال لا تنتمي إلى الفن الروائي، بعضها أقرب إلى التاريخ، أو السيرة، أو أي شيء آخر غير الرواية.
وسأحاول في هذا المقام توضيح أسباب ضعف بعض النتاج الروائي المحلي، ويأتي في مقدمتها استسهال كتابة الرواية، فهناك من يظن أن كتابتها عمل سهل، لا يعدو أن يكون مجرد: حكاية قوامها مجموعة من الأحداث الواقعية، فالموهبة مفقودة. والأصل فيمن أراد أن يكتب رواية أن يقرأ مئات الروايات العالمية والعربية والمحلية، قبل الشروع في كتابة رواية؛ ليقف عند أبرز اتجاهات كتابة الرواية، مع متابعة النقد الروائي، ويبدأ من حيث انتهى الآخرون، أما أن يتجه الكاتب إلى كتابة رواية، دون وجود ذخيرة روائية عميقة، فعمله لن يشكل أي إضافة.
والأمر الثاني يتمثل في أهمية وجود وجهة نظر للعالم لمن يتصدى للكتابة، ووجهة النظر تتشكل من العمق الثقافي والتنوع المعرفي للكاتب.
والأمر الثالث فهم طبيعة الكتابة، إذ يمكن أن يحقق الكاتب النجاح المؤقت؛ بسبب اختياره موضوعات مسكوتاً عنها، تضمن له وجود من يهتم بعمله، لكنه اهتمام مرحلي مؤقت، لا يصنع أدباً حقيقياً.
وأشير في هذا المقام إلى أن كتابة الرواية بحاجة إلى شغف وصبر وثقافة وقراءة وفهم ورؤية، ويمكن لأي شخص أن يكتب عملاً ظاهره رواية، وواقعه مجرد حكاية، لكن القادرين على كتابة الرواية قلة. والساحة الأدبية المحلية شهدت أعمالاً كثيرة لا تنتمي إلى الرواية بصلة، مجرد حكايات غير ناضجة، تفتقد أدنى درجات الفنية، منها: أعمال تعليمية مباشرة، وأعمال تتجه إلى مخاطبة الغرائز، وأعمال تتبجح بإبراز صور سلبية عن المجتمع، وفي المقابل هناك أعمال روائية فنية حاضرة في مشهدنا الثقافي، إذ استفاد أصحابها من تجاربهم الذاتية، وتجارب الآخرين، فأسهم تعدد التجارب وتنوعها في تميز الفن الروائي وازدهاره، ويؤكد هذا حضور الرواية المحلية على مستوى الجوائز العربية، وهذا مؤشر يحتاج إلى نقاش موسع.
وأشير في هذا السياق إلى بداية وجود وعي حقيقي لدى فئة كبيرة من الكتاب والقراء على حد سواء، نتج عنه توقف بعض أصحاب التجارب الهشة، والتفات النقد إلى الأعمال الفنية الجادة التي تعي طبيعة الفن، وهذا أمر إيجابي يسهم في توجيه النتاج الروائي وجهة صحيحة، فالرواية ليست وثيقة اجتماعية، وليست تصويراً حرفياً للواقع، وليست من وظائفها الحقيقية المبالغة في الحديث عن المسكوت عنه، أو جعله هدفها الأول، الرواية الحقة هي التي تقدم عالماً موازياً للواقع، وتمتاح منه، وتقرأه قراءة خاصة جديدة، وتقدمه وفق رؤية الكاتب الخاصة للعالم، فالرواية رؤية وموهبة وشغف وقراءة وعمق فكري، يقدمه الروائي في عمله.
** **
- أ.د. علي بن محمد الحمود