للأماكن أرواحٌ لا تموت، قد تشيخ، وقد يعتريها من الوهن والعجز شيءٌ، لكنها لا تموت! تظل دائمًا متوقدة بضيائها الأول، مستعدة دومًا لعرض شريط الذكريات الخاص بها، مهما مضى من الوقت عليها. إن وقوف المرء على أطلال مكانٍ ما له من سلسلة أحداث حياته نصيب، قادرٌ على تشريح ذاكرته بخِفة لا يستطيع مجاراتها، يجعله الوقوف أمام المكان يسترجع شيئًا من شخصه الذي كان عليه آنذاك، للأماكن هيبة ووقار تجعل النفس التي تمر بها تنصهر من فرط الشعور الذي يتسرب من أرضها. للمكان قدرةٌ تشبه فكرة آلة التنقل عبر الزمن ولكن بطريقة مختلفة، حيث إن الانتقال الفعلي يأخذك للزمن المقصود وكأنك تعيش هناك، بينما الانتقال الذي يُحدثه المكان هنا هو انتقالٌ رمادي، انتقال يولد في النفس كمًا من الأسى والحنين، حيث يأخذه المكان لمسرحه القديم، يتركه يقف على مقربة من المسرح كمتفرج لا أكثر، فهو ليس بأكثر من شبحٍ لا يُرى ولا يُسمع أنين صوته المتلحف بمعطف الحنين، يتنقل بين وجوهٍ يفتقدها، ويلاحق عبر الجدران أصواتًا غابت عن واقعه، بل إنه حتى يتأمل نسخته القديمة، أفكاره، طريقة تحدثه، ضحكه وبكاءه، يتأمل التغيرات التي طرأت عليه، والأشياء التي بقيت كما هي ثابتة، يرى هذه المرة المشاهد القديمة برؤية عالية الوضوح، تستعرض ذاكرته كل تفصيلٍ قد غاب عن ذاكرته، وينتبه لكل ما غفل عنه آنذاك، لكن الوقت قد انتهى للانتباه الذي سيُحدث فارقًا، يبدو دائمًا وكأن هناك فاصلاً زجاجيًا غير قابلٍ للكسر بينه وبين ذلك الزمن، يراهم من خلفه ولا يرونه، وهذا ما يجعل للمكان مرارةً يبقى طعمها في فمه حتى بعد مغادرته.
تأسرني فكرة الأماكن القديمة، التي لم تعد كما كانت عليه، والتي شهدت من عواصف الحياة كمًا ضخمًا، احتضنت قصصًا وحكايات تفيض آثارها على ملامحها الآن، تفيض لأنها لا تملك المقدرة على سرد ما عاشته. تأسرني فكرة العودة لهذه الأماكن، أو حتى المرور العابرِ بها، فالأماكن في نظري ما هي إلا انعكاسٌ للروح البشرية، ولمشاعر الإنسان التي خلّفها بها، ومن يطيل تأمله فيها يستطيع أن يستشف على وجوهها الكثير من المعاني التي تُلامس صميم الروح، وتنقب في داخله عن انتماءٍ قديمٍ لها. لا يقتصر الأمر على من له بالمكان ذكريات، بل حتى العابرين الذين يستوقفهم مكانٌ قديم مروا به خلال سيرهم، أو قصدوا زيارته، ما الذي يدفعهم للوقوف به؟ ولتأمله الطويل والتفكر في قصصه التي آلت به إلى وضعه الحالي! أهو مجرد فضولٍ نحو التاريخ؟ أم أنها القيمة المعنوية التي تمتلكها هذه الأماكن؟ طريقتها في الحفر بأعماقهم عن أغرب الأفكار، وبساطها السحري الذي يأخذهم الخيال على متنه في رحلةٍ إلى زمنها، وتفكرهم في حقيقة مضي الزمن والزوال الذي سيمر بنا جميعًا دون استثناء.
يُلامسني منظر الآخرين وهم يتحسسون بقلوبهم أماكن ما عادت لهم ولزمانهم، أكان مشهدًا واقعيًا من الحياة، أم مشهدًا دراميًا في مسلسلٍ أو فيلمٍ ما، أو حتى مشهدًا سرديًا في رواية أقلب صفحاتها بين يدي، لابد وأن يكون هناك أمكنة قديمة تحرك فينا كل ما همشناه أو أقفلنا عليه في سراديب الذاكرة، أكان بقصدٍ منا أم بطبيعة حال حركة الحياة التي تمضي بنا وتُسقط منا أشياء عديدة لم ننتبه لها لانشغالنا بالركض خلف الحياة، وحين نعود للأمكنة القديمة ننفض عنها غبار السنوات، نقلبها بين أيدينا ثم نعيدها إلى مكانها بعد أن أظهرنا لها ضعفنا، فقد أثبت الإنسان منذ قديم الزمان ضعفه أمام المكان، منذ أن نظم امرؤ القيس معلقته:
«قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ»
وربما حتى من قبل ذلك بكثير، بيد أن مصطلح -الوقوف على الأطلال- ظهر في العصر الجاهلي كظاهرة اعتاد الشعراء استفتاح قصائدهم بها، إلا أن فكرة الوقوف هذه أراها تمر بالناس جميعًا مع اختلاف أننا لسنا جميعًا شعراء، فالمكان القديم وإن لم يكن مرتبطًا بالحبيبة كما كان في ذلك العصر إلا أنه يبقى توقفًا على الأطلال، نبشًا للذكريات، وتأملاً طويلا في حال الإنسان..
أذكر مشهدًا دراميًا من مسلسل سوري عن رجلٍ غادر سوريا قبل اندلاع الثورة بوقت، تاركًا أهله خلفه بلا مبررات، قُطع بينهم التواصل وما عادوا يعرفون عنه شيئًا، لأسبابٍ كان يراها مقنعة، ثم مضت السنوات، وعاد بعد غياب طويل، لكن لا شيء كان مثلما تركه يوم رحيله، شحب لون وطنه، مات أبواه واختلفت طرقات حياة أخوته. وقف أمام منزلهم، لا شيء عليه سوى آثار الهجر التي لطخت جدرانه العالية، أما الأثر الوحيد الذي كان لوالده هو اسمه الكامل الذي كُتب على لافتة صغيرة بجانب الباب، ثم لا شيء سوى ممرٍ طويلٍ تصوره له ذاكرته، ممرٌ باهت وقاتم، تتجول فيه أطيافهم وذكرياتهم، كان المشهد رماديًا، وبدا البيت مظلمًا موحشًا. تشبث بأسوار الباب الحديدي، ونادى على أبيه بصوتٍ مغرورقٍ بالندم المكبل بالعجز، شعر بحاجةٍ إلى التعريف بنفسه قائلاً: «أنا ابنك الذي تركك وترك لك المفاتيح..» آخر ما فعله قبل رحيله هو ترك مفاتيحه لأبيه، لذا استفتح حديثه بذكرها، ثم قال في لكنة ندمٍ بالغة بأنه قد عاد الآن لكنه لا يملك تلك المفاتيح، لا يملك أي مفتاح لأي باب في هذه الدنيا، وبأنه لا يريد سوى مفتاح والده.
عودته لبيت عائلته القديم دلالة على رغبة الإنسان في الانتماء إلى مكانٍ ما، وبيوتنا القديمة التي احتضنت سنوات طفولتنا وبدايات نضجنا هي أكثر الأماكن انتماءً في نفوسنا، ربما لأن الإنسان حين يكبر يبتعد عن هذه المراحل من حياته، فتصبح بعيدة للحد الذي يتصور فيه بأنه لم يكن سعيدًا بمقدار ما كان آنذاك، أو لأن وجود العائلة في تلك السنوات قبل أن يُدرك حوادث الحياة التي قد تعترضهم من مرض وفقد وفراق وغيره هي ما تعطي لهذه المراحل لونًا خاصًا، ربما أيضًا لأنها حملت في طياتها المرات الأولى من كل شيء، أو لأنها كانت أخف وزنًا، ليس لأنها لم تحمل للبعض شيئًا من العقبات والآلام، لكن لأن مساوئها تبدو لهم الآن كنقطة سوداء في صفحة بيضاء، حتى وإن كانت هذه النقطة ذكرى سيئة لم يكفِ الوقت لإزالة آثار مخالبها على نفوسهم.
من المشاهد الأخرى هذه المرة مشهدٌ من الواقع، فيديو ملتقطٌ بكاميرا هاتفٍ ذكي وبجودة عادية، مشهد لم يكن خلفه مخرج عبقري، كان لرجلٍ مسن عاد لدياره القديمة في قريته بجنوب المملكة، للمنازل الصغيرة التي بُنيت من الأحجار بأيدي مُلاكها ومعارفهم وأصدقائهم، والتي قد عاش بها زمنًا طويلاً، أسند العجوز جبينه على كفه التي تتكئ على الجدار وبكى، كان يبكي اشتياقه، يبكي الوقت الذي رحل ومن رحلوا معه، من عاشوا بين تلك الجدران وما عايشوه بينها. كان ذلك أحد صور العودة للديار القديمة، وما يكلفه مرور الزمان، أن تصل للمكان الذي جمعك بقلوبٍ أحببتها وعشت معها سنوات طويلة لكنك الآن وحدك، تقف وتفصل بينكم سنوات ضخمة، لا أنت هناك ولا هم هنا، مجرد صور ضبابية يجسدها لك المكان، تُبهتُ في عينيك واقعك، ليبقى الوجود الكامل لها وحدها.
لم يغب عن ذهني هذا المقطع المتداول، ذلك المسن الذي جسد صورة حية لما يفعله بنا المضي في طرقات العمر، وبأن قلوبنا ستظل دائمًا تهفو إلى أماكننا القديمة وطُرقنا الأولى، وبأننا مهما ابتعدنا وكبرنا وامتلكنا من القوة والصلابة شيئًا نظل أمام المكان وذكرياته عاجزين. استطاع أن يسرد دون أن ينبس ببنت شفة ما يفعله بنا المكان بطريقة تفوق سردي هذا كله، تأمله الطويل لكل زاوية وباب، يده المتشبثة بعكازه، ظهره الذي قوّسه العمر، ودموع عينيه الصادقة، كل إيماءة ونظرة وحركة كانت قادرة على إيصال المعنى بلا تكلف.
** **
- أماني عبدالرحمن