أ.د.عثمان بن صالح العامر
أحيانًا تمر بك أحداث ومواقف في التاريخ تقف إزاءها مشدوهاً في البداية ومتأملاً بعد ذلك ومتفكراً وتنتهي إلى الاعتزاز والافتخار بالقيم الأخلاقية التي أمر بها هذا الدين العظيم، فجعلت سلف هذه الأمة يسطرون بفعلهم ما يعجز التاريخ أن يتجاوزه، ومن ذلك مثلاً ما أورده البخاري في صحيحه (باب الهدية للمشركين) أن ابن عمر رضي الله عنهما، ذكر أن عمر رضي الله عنه (رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هذِه والبَسْهَا يَومَ الجُمُعَةِ، وإذَا جَاءَكَ الوُفُودُ. قالَ: إنَّما يَلْبَسُ هذِه مَن لا خَلَاقَ له فَأُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منها بحُلَلٍ، فأرْسَلَ إلى عُمَرَ بحُلَّةٍ، فَقالَ: كيفَ ألْبَسُهَا وقدْ قُلْتَ فِيهَا ما قُلْتَ؟ قالَ: إنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا، ولَكِنْ تَبِيعُهَا أوْ تَكْسُوهَا فأرْسَلَ بهَا عُمَرُ إلى أخٍ له مِن أهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ)، وكلنا يعلم أن هذا النوع من الهدايا ينم عن الصفاء الداخلي لدى المهدي، ويبرهن بصدق عن مشاعر العطف نحو هذا المشرك المهدى له هذه الحلة الجميلة.
ويقول مجاهد كنت عند عبدالله بن عمرو وغلامه يسلخ شاة، فقال: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رحل من القوم، اليهودي؟ أصلحك الله، فقال عبدالله (إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى خشينا أو رؤينا أنه سيورثه).
وعمر بن الخطاب هو أول من سن النظام الاجتماعي حين اسقط الجزية عمّن لم يستطع دفعها لعجزه عن الاكتساب إما لكبر سنه أو ضعف جسده أو افتقاره، إذ يذكر أبو يوسف في كتابه الخراج «أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه فقال: من أيّ أهل الكتب أنت؟ قال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر - رضي الله عنه - بيده فذهب به إلى منزله، فرضخ له - أي أعطاه- من المنزل بشيء ثمَّ أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثمَّ نخذله عند الهرم، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه».? وهذا خالد بن الوليد من بعد عمر - رضي الله عنهما - يمارس دوره في رعاية المسنِّين ويعطيهم حقهم من الرعاية والعناية في المجتمع، حتى وإن لم يكونوا مسلمين، فلقد صالح أهل الحيرة، وجاء في صلحه معهم أنه قال «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت المسلمين...». ومن بعد خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يسير عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله - في ذلك الركب المبارك ويؤدي دوره الرعوي نحو رعيته فها هو يكتب لعامله عدي بن أرطأة في رسالة طويلة ما نصه: «... وانظر مَنْ قبلك من أهل الذمَّة من قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه...».
ويذكر أبو ميسرة أنهم كانوا يجمعون صدقة الفطر ويعطون منها الرهبان. أورد هذا أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه المعروف (الأموال).
لقد أعزنا الله بالإسلام وبه يكون التعايش بين مكونات المجتمع البشري، فهل نتأمل جيداً النص القرآني منها والنبوي؟، وهل نعيد قراءة تاريخنا المجيد؟، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.