د. محمد بن إبراهيم الملحم
لا زلنا نتذكر نحن أبناء الأجيال السابقة عبارة «لم ينجح أحد» والتي ذهب مثلاً يُضرب وربما لا يعرف بعض أبناء الجيل الحالي أصله ولا عجب فهم منذ عرفوا المدرسة وهم ينعمون بحالة رفاهية تعليمية غير مسبوقة تمثلت في شيوع مذهب «لم يرسب أحد» بل الأصح والأكثر دقة في الواقع «لا يرسب أحد» وإن كان الطالب في مدرسة أهلية فسوف تنطبق عليه «لن يرسب أحد» وإن شئت «مستحيل يرسب أحد» وفي بعض الحالات سوف تكون بالطبع «لم يتخلف عن التفوق أحد»! واسمحوا لي أن أشرح لهذا الجيل أصل العبارة فهي نشأت عندما كانت أسماء الناجحين في اختبارات الشهادة (إما شهادة المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية) تعلن عبر الراديو في الستينيات والسبعينيات الميلادية ثم لاحقاً في الثمانينيات من خلال الصحف فقط وفي بعض الحالات والتي تكون فيها غالباً المدرسة بعدد طلاب قليل ولا يوفق أحد منهم في النجاح فإن المذيع يذكر اسم المدرسة وبدلاً من تلاوة أسماء الطلاب الناجحين فإنه يقول العبارة الشهيرة «لم ينجح أحد».
في الثمانينيات تقريباً رأينا ظواهر التساهل مع الغش في المدارس أو بيع الأسئلة وبالنسبة للمعلم النزيه ظهرت لديه حالة إرضاء إدارة المدرسة أو إدارة التعليم من خلال الأسئلة السهلة ونجاح أغلب الطلاب وربما كلهم بعيداً عن لوم تلك الإدارات عند ظهور نسب نجاح منخفضة لدى المعلم ونسبة الإخفاق إليه طلباً منه أن يصنع المعجزات نحو طلاب مهملين أو مرفهين ويجعلهم عباقرة الزمان، شهدت هذا وأنا طالب في المرحلة الثانوية ثم وأنا معلم بعدها بسنوات قليلة تساوي سنوات الجامعة خاصة أن أغلب أولئك المعلمين غير سعوديين مغتربين عن أوطانهم لطلب الرزق ولا يمكن أن يتصادموا مع رغبات المسؤولين (غير المسؤولة) لتظهر إداراتهم متفوقة على غيرها من خلال نتائج الطلاب! ولهذا السبب بدأت ظاهرة «لم ينجح أحد» تختفي في نتائج المدارس النهارية وظلت مشاهدة في المدارس الليلية خاصة بعد انتشار هذه المدارس في الثمانينيات حيث كان يغلب على منتسبيها أصلاً أنهم فشلوا في استكمال دراستهم سابقاً فذهبوا للوظيفة مبكراً (بعد الابتدائية أو المتوسطة) ولكنهم رغبوا لاحقاً العودة إليها وبعضهم يعود بقوة وقد تحسنت همته من خلال الانخراط في بيئة العمل (وهم فئة قليلة بل ربما هي نادرة) وكثير منهم أو الغالبية يعودون للدراسة بنفس ضعفهم السابق نشاطاً وقدرات علمية ولكن محاولتهم هي مجرد استجداء لمساعدة وتجاوز من معلميهم وهو ما يجدي «أحياناً» ولكنه لا يجدي في كثير من الأحيان «آنذاك» لتكون نتيجة هذه المحاولات اليائسة في عدد من المدارس «الأكثر جدية» هي «لم ينجح أحد» والواقع إن آخر ظهور لهذه العبارة للمدارس النهارية كان في التسعينيات وأوائل الألفية ضمن نتائج الثانوية العامة للدور الثاني فقط (قبل إلغاء اختبار الثانوية العامة) حيث تشهد بعض المدارس الثانوية الصغيرة عدداً يسيراً جداً من الطلاب أو الطالبات هم الذين وقع عليهم اختبار الدور الثاني ربما كانوا اثنين أو ثلاثة وأحياناً واحد لتكون النتيجة عندئذ لم ينجح أحد إذا لم يوفق هذا الطالب في اجتياز اختبار مادته أو مواده التي أعاد دورها الثاني.
«لا يرسب أحد» منهج صالح للمرحلة الابتدائية خاصة الصفوف الأولية وذلك لعدم تمكن الطفل من إدراك مسؤولية «النجاح» أو «الاجتياز» كما أن الطفل الذي لا يتمكن والداه من مساعدته معرفياً ومساندة المدرسة في تعلمه قد يتعرض للإحباط النفسي حال تقدم زملائه إلى صفوف أعلى وبقائه هو في صف متأخر عنهم ، ولكن من الخطأ ترحيل هذا المفهوم إلى الطلاب الأكبر سناً ، حيث يجب أن يجرب الطالب عثرات الحياة في سن الشباب فتكون عظة مبكرة له ولا يقع فيها في سن أكبر من ذلك لاحقاً حيث الخسائر أكبر وربما أكثر فداحة. أعلم وأدرك جيداً كم يوفر ذلك على الميزانية إذ إن إعادة الطالب سنة أخرى (وربما كانت سنتين) تعني أن دراسته ستكلف الميزانية 13 سنة أو ربما 14 سنة بدلاً من 12 سنة المخصصة للتعليم العام ، وبحسبة بسيطة بضرب تكلفة الطالب سنوياً (بعشرات الآلاف) في متوسط أعداد الطلاب الذين كانوا يعيدون السنة سنعرف كم حصل من توفير مالي سنوياً. وهو في الواقع ليس توفيراً عند وزنه بمقاييس نظرية رأس المال البشري أو بمبادئ اقتصاد المعرفة بل هو هدر مالي حقيقي إذ تخرج المؤسسة التعليمية أعداداً كبيرة من «الناجحين» غير الناجحين في الواقع!