علي الخزيم
لفت انتباهي تخريج وتفسير لطيف للعلامة الشيخ محمد الشعراوي لمفهوم تصفيد الشياطين خلال أشهر رمضان؛ قال رحمه الله: (الكلام نوعان: إمَّا خبري يَقُصّ عن واقع، وإمَّا كلام خبري يريد إنشاء واقع؛ فمثلاً قوله تعالى عن البيت الحرام: فمن دخله كان آمناً؛ فإذا كان المقصود به إخباراً من الله بذلك الواقع؛ فكان لا يمكن أن يحدث في كون الله ما يناقض ذلك، أما إذا كان المقصود منه إنشاء واقع أن يكون أمراً من الله تعالى للناس أن يجعلوه آمناً، وعليه فقد نجد بالواقع ما يغاير ذلك وهذا راجع إلى أن الناس لم تمتثل للأمر)، ويُضيف قوله: (في الحديث نجد أنه كلام يراد به إنشاء واقع؛ فيقصد أن يقول: صَفّدوا فيه الشياطين فإن أطعنا صُفّدت، وإن لم نُطِع لم تُصَفّد، ونحن مأمورون بإنشاء هذا الواقع)، وبتقديري فهو قول يساعد على فهم ما يجري طيلة الشهر الكريم لا سيما خلال ساعات الصيام من أعمال منافية للأخلاق والعُرف؛ ومنها ما يَخْرم المروءة، ومنها ما سُجّل كجرائم ثابتة أحيل مُرتكبوها لجهات الاختصاص، ومرد ذلك إلى أننا أمام اختبار للنجاح بقدرات التَّحكم بالانفعالات وضبط الجوارح أثناء الصيام، فالبعض يستسلم للإثارة والانفعال الشيطاني خلال الصيام؛ وكأن الأمر أصبح معكوساً فالأصفاد بأيدي شياطينهم حتى إذا ما حل شهر الصوم أُطلقوا ليعبثوا بالمشاعر ويؤججوا الانفعالات لتُرتكب المحذورات بشهر أمرنا فيه بالصبر والصلاة والطاعات والتراحم والوئام والسلام وفيه ليلة (سلامٌ هي حتى مطلع الفجر)!
بالمدرسة والمسجد ووسط بيئتنا الإسلامية تعلَّمنا أن الصوم يروّض النفس ويؤطرها على مجموعة من الخصال والفضائل أقربها للفهم ضبط النفس وكبح الأعصاب عن اقتراف كل ما يؤذينا أو الغير، وما يزيد رصيد الذنوب بسجل وموازين الأعمال {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه: 52)، فالواضح أن من عَجِز عن اجتياز هذا التمرين التشريعي الراقي الفضيل فربما أنه عن غيره أعجز بمقياس الفضائل والأعمال الصالحة، وليس بالمكاسب الدنيوية التي ربما تأتي بأي طريقة، ويُرثَى لمن تركوا ذواتهم لافتراس الشياطين {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}؛ ليقترفوا أفعالاً ويطلقوا أقوالاً يُنظَر إليها عامة وبالشهر العظيم خاصة باستغراب ونفور وشفقة على مرتكبيها، فلو كانت الشياطين مُكَبّلة مُصفَّدة حينها فلن تقدر على من ضعفوا أمامهم، فهي بالواقع ستكون مغلولة بامتثالنا لأوامر الله سبحانه واحتساب الأجر بالصبر عند الغضب.
ومن الأمثلة الطريفة المُحزنة بذات الوقت ما أعلنته الجهات المختصة من ضبط عمَّال بمحطات وقود السيارات (البنزين) وهم يَغشُّون بالقيام بتغيير قراءات الآلات خلال رمضان، يقول أحدهم إن عمّالاً بمحطة قريبة كان يُقدم لهم الإفطار مغرب كل يوم بمسجد الحي ضمن آخرين؛ ثم اكتشف أنهم يغشونهم بالأسعار بعد العشاء! وحالة أبشع تُبرهن على مدى ترك بعض الأمور لرغبات الشياطين؛ ذلكم أن مواطناً أقدم على قتل زوجته أمام أطفاله أول أيام العيد (يبدو أن شياطينه كانت شغوفة لإعلان رؤية هلال شوال) اللهم لا شماتة، إنما القصد العبرة والموعظة.