فلو أنني خُيَّرتُ منْ دهري المُنى
لاخْتَرْتُ طُولَ بَقَائِهِ وَخُلُودِهِ
فبينما كُنتُ أبحث في بعض الأوراق إذا بوجود مقال تأبين ورثاء قديم للزميل الكريم الدكتور محمد بن سعد الحسين (أبو عبد الحميد) في رحيل زميلنا وصديقنا معاً الشيخ الحبيب عبدالله بن عبدالكريم بن سعد المفلح، الذي ولد في مدينة عنيزة إحدى كبريات مدن القصيم في منتصف شهر محرم من عام 1359هـ -رحمه الله- فأهاجني ذاك المقال المؤثر، والقصيدة المذيلة بآخره، والتي تقطر حزنًا ولوعة على غيابه عن الوجود مُبكرًا..، وكان -رحمه الله- في طليعة طلاب فصلنا علمًا وأدبًا بالمعهد العلمي، وفي كلية اللغة العربية حتى نلنا الشهادة العالية بها عام 1378هـ، (الدفعة الثانية)، وكان ينافس الزميل محمد بن صالح العميل في سبيل الوصول لأعلى الدرجات والتفوق في جميع المواد الدراسية -رحمه الله-.
وقد حلّق بي الخيال إلى هاتيك الأجواء؛ أجواء الدراسة الحبيبة إلى قلوبنا والشمل جامع لنا.. في رشفِ رحيق العلوم الصافية من أفواه مشايخنا ومعلمينا الأفاضل -ومعظمهم من علماء الأزهر أبناء النيل..، جزاهم المولى عنا خير الجزاء برحمته وفضله-، ولكن سرور أجواء الدراسة لا يدوم أبداً..
الدَّهْر لاءم بَين ألفتنا
وكذاك فرق بَيْننَا الدَّهْر
ولقد بدأت صحبتنا به وتآلفنا منذ عودتنا من دار التوحيد بالطائف بالسنة الثالثة بالمعهد العلمي في مدينة الرياض عام 1373هـ، مواصلين الدراسة حتى تخرجنا من كلية اللغة العربية عام 1378هـ، وكان من الموهوبين في حُب تسريح النظر في بطون الكتب الدسمة بصفة عجيبة، ولا سيما في الإجازات الصيفية، مما ساعده على فهم المواد الدراسية واتساع آفاق العلم والثقافة لديه بشكل كبير واجتياز الامتحانات بتفوق..، ويذكر الزميل الدكتور محمد بن سعد بن حسين في مقال نشره بعنوان (وداعاً أيها الحبيب) في صحيفة الجزيرة يوم الأحد 10 صفر 1402 هـ (صفحة 13) أَنَّهُما كانا أثناء الإجازة الصيفية يلتقيان يوميًا لقراءة عدد من الكتب، وعلى سبيل المثال في صيف عام 1376هـ، تم قراءة 37 كتابًا..، كان منها: تاريخ الأدب للرافعي في أجزائه الثلاثة، وكتاب:(مواقف حاسمة في تاريخ العلوم)، ومختارات من الأدب الاسكندنافي، والأدب الأمريكي، وكتب أخرى مختلفة في الدين والتاريخ والعلوم والأدب.
وقد عُين رحمه الله بمعهد الأحساء العلمي عام 1379هـ، وبعد عام انتقل إلى المعهد العلمي بالرياض، ثم نُقل للتفتيش؛ فمديرًا لإدارة المعهد العالي للقضاء..، ثم التحق بالرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد، حيث وصل فيه إلى مدير إدارة البحوث العلمية، وكان خلال حياته العملية يقوم ببعض الأعمال الصحفية..، فقد تولى الإشراف على الصفحة الأدبية بصحيفة الرياض فترة من الزمن، كما تولى رئاسة تحرير مجلة الدعوة لمدة عامين..، وزار عددًا من البلدان العربية والأجنبية في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا ضمن زيارات عمل..، وكان مجيدًا للغة الإنجليزية مما سهل عليه لغة التفاهم والتخاطب مع الغير..، ولقد أجاد القائل:
بِقَـدرِ لُغاتِ المَرءِ يَكثُرُ نَفعُهُ
وتِلكَ لَهُ عِندَ الشدائد أَعوانُ
فبادر إلى حِفظِ اللُغاتِ مُسارعاً
فَكُلُّ لِسـانٍ فـي الحَقيقَةِ إِنسانُ
فهو رجل محنك، وعلى جانب كبير من التواضع والأدب الجم الرفيع، مما جعل النفوس تميل إليه حبًا واحترامًا، فالذكريات الجميلة معه ومع زملاء الدراسة وخاصة زملاء الفصل في المراحل الدراسية تكون أحلى وألصق في جوانب النفوس لا يمحوها تعاقب الملوين مدى العمر، وذلك لتكرار الاجتماع بهم كأنهم أسرة واحدة في تألفهم..، ونختتم هذا المقال بهذا البيت الذي كأنه سؤال مُقدرًا على سبيل التوهم:
بلى إنّ هذا الدّهر فرّق بيننا
وأيّ جميع لا يفرّقه الدّهر
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء