د. جاسر الحربش
أعتقد أن هذه المقارنة تدور في أدمغة عربية كثيرة، مع الاحتفاظ بصفة عربية هنا لكل من يتخاطب بالعربية داخل نفس الوعاء الجغرافي والتاريخي الحضاري المتفق عليه لتصنيف الحضارات العالمية الكبرى.
لروسيا التاريخية هويتان رئيسيتان هما اللغة الروسية والكنيسة االأرثوذوكسية رغم اندماج العديد من الأعراق واللغات والأديان داخل امتدادها الجغرافي الشاسع إلا أن المرجعية الحضارية للجميع كانت إما بطرسبرغ سابقاً أو موسكو فيما بعد. مرت روسيا عبر تاريخها الأرثودوكسي بسجالات مد وجزر مع جوارها البروتستانتي الكاثوليكي في أوروبا القديمة ثم مع أمريكا الشمالية. بعد تفكك المنظومة الشيوعية محكومة بالفشل المعاند للتاريخ دخلت الشجرة الروسية الأصل في حالة ضمور وانكماش وصلت إلى أحد أهم مكوناتها التاريخية وهي المقاطعة الروسية الأوكرانية.
الصراع الروسي - الأطلسي على المقاطعة الأوكرانية في جوهره حالة دفاع متكررة من قبل الحضارة الروسية الأرثوذوكسية ضد التوسع الغربي البروتستانتي - الكاثوليكي باتجاه الشرق. الصراع الحالي ليس جديداً ومجرد تكرار للتاريخ منذ قرون، والجديد الوحيد فيه هو دخول الطرف الأمريكي صاحب الأيديولوجية العسكرية الإملائية الفوقية إلى جانب المكون الأوروبي الغربي. لذلك يكون من الطبيعي أن يستيقظ القلق الروسي القديم إزاء التهديد الوجودي ليدافع عن نفسه على أرض يعتبرها قطعة أصيلة من اللحمة الحضارية الروسية االأرثوذكسية
هل يشبه هذا الوضع ما تمر به الحضارة العربية بتعريفها السابق في بداية المقال من التهديد الحضاري الوجودي العنيف الذي يمثله المشروعان الفارسي والصهيوني، وكلاهما توسعي احتلالي يرفع شعارات الدين - المذهب؟. لننظر بواقعية في مجريات الأمور.
الحضارة العربية بمجملها التاريخي لغتها عربية وديانتها الغالبية إسلامية سنية تتعايش بداخلها أديان ومذاهب وأعراق ولغات عديدة، وقبلتها عبر التاريخ مكة المكرمة مهما اختلفت مراكز الحكم والسيطرة الجغرافية. هذه الحضارة العربية وعمرها أربعة عشر قرنا ونصف مرت تاريخياً بحالات مد وجزر مع الجوار الفارسي، ولفترة قصيرة بمفهوم التاريخ الممتد مع المكون الطوراني الطارئ على المنطقة. حالات المد والجزر في تاريخ المنطقة العربية الحديث تحكمت فيها وحرفتها لصالحها الحضارة البروستنتينية - الكاثوليكية منذ القرن السابع عشر. بعد منتصف القرن العشرين الماضي دخل العنصر المركنتيلي الأمريكي كلاعب متحكم في مجريات المد والجزر العربي - الفارسي لصالح لاعب جديد، متمكناً منها بالقوة العسكرية والعلمية والرأسمالية السياسية، مستدخلاً معه مكوناً ثالثاً هو المشروع الصهيوني التوراتي.
التطابق في الصراع الوجودي الروسي الأرثودوكسي في مواجهة التوسع البروتستانتي - الكاثوليكي (اليوروأمريكي) مع الصراع الوجودي العربي في مواجهة التوسع الفارسي والصهيوني لا تخطئه بصيرة المفكر المحايد بعد تخلصه من الأدلجة المذهبية.
فتش عن المستفيد الأكبر من صراع الحضارات المتجدد بانحرافاته عن مساراته التاريخية القديمة لتجد المشروع الأمريكي في التفاصيل.
الحالة الروسية والعربية متطابقتان في العناصر والأسباب ما عدا في إمكانيات الندية في المقاومة حتى الآن على الأقل.