د.عبدالله بن موسى الطاير
المسيحية السياسية تكتسح الأحزاب الكبرى في أمريكا وأوروبا، ويكاد الحزب الجمهوري الأمريكي يكون رائدًا في المسيحية السياسية وبخاصة منذ انتخابات 2016م. وقد لوحظ التقدم الكبير الذي حققته ماري لوبان في فرنسا في الجولة الثانية أمام الرئيس ماكرون مما يؤشر إلى تغييرات قادمة تجعل من المسيحية السياسية محور الحراك المستقبلي في المجتمعات الديموقراطية الغربية.
ويعد الرئيس الأمريكي (الديموقراطي) جيمي كارتر أول رئيس إنجيلي، دلف إلى عالم السياسة والمسيحيون الإنجيليون بعيدون عن عالمها الذي يرونه لعبة قذرة لا تليق بالمتدينين. لقد أثارهم ذلك المرشح المتدين الذي يقرأ الإنجيل كل ليلة، ويستشهد في خطابه الانتخابي بمقولة اللاهوتي رينهولد نيبور: «الواجب المؤسف للسياسة هو إقامة العدل في عالم الخطيئة». لقد كان هذا النوع من الخطاب المفعم بالإيمان غريبًا من سياسي وطني من الحزب الديموقراطي، وجديدًا على معظم الناخبين الأمريكيين.
فاز كارتر بانتخابات 1976، بفارق ضئيل عن منافسه الرئيس الجمهوري آنذاك جيرالد فورد. ومع أنه متدين في شخصه، إلا أنه قدّم التقاليد الليبرالية على معتقداته الدينية؛ فأعلى من شأن المساواة العرقية، وشجب التفاوت الاقتصادي، وجعل مخاوف حقوق الإنسان جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية الأمريكية، ولذلك فإن ترتيبه الأولويات في الحكم جعلته يخسر قلوب وعقول رفاقه البيض، وفي ذات الوقت أحيا في الولايات المتحدة الأمريكية الحراك الديني السياسي؛ إذ بفضل شخصيته المتدينة، وخطابه الانتخابي الإيماني «استيقظت حركة جديدة من التبشير الأبيض خلال فترة رئاسته، وهي حركة محافظة اجتماعيًّا ومعادية لجدول أعماله وله شخصيًّا». قويت هذه الحركة في المدة من 1976 حتى 1980 لتهزم كارتر بدعمها لمنافسه رونالد ريجان.
ومن غرائب المسيحية السياسية التي لا تختلف كثيرًا عن الحركات السياسية الدينية حول العالم، أن الرئيس المتدين خسر البيت الأبيض أمام الجمهوري غير المتدين رونالد ريغان، الذي حظي بدعم ثلثي الناخبين الإنجيليين البيض، رغم أنه تزوج مرتين، وانفصل عن أبنائه، ولم يحضر الكنيسة أبدًا.
ومنذئذ تعاظم الدور الفاعل للإنجيليين في السياسة الأمريكية ووجدوا مؤخرًا في الرئيس ترامب مرشحًا شعبويًّا ينسجم مع توجهاتهم بغض النظر عن تدينه الشخصي؛ حيث صوت له نحو 80% من الإنجيليين البيض على الرغم من أنه الشخص غير المناسب على الإطلاق للتطلعات الإنجيلية؛ فهو متزوج ثلاث مرات، ومتهم بعلاقات متعددة خارج نطاق الزواج، وبذيء الكلام، وصرح ذات مرة أنه «لم ير أبدًا سببًا لطلب المغفرة من الله»، بيد أن عداوته للمرأة والملونين والمهاجرين جعلته ابنًا بارًّا للمسيحية السياسية، لدرجة أن الإنجيلي المتعصب فرانكلين جراهام قال عنه: «أعتقد أنه رئيس الولايات المتحدة لسبب ما» وأن «الله وضعه هناك».
المسيحية السياسية لا تختلف كثيرًا عن الإسلام السياسي سواء مارسه الإخوان المسلمون أو السلفيون، جميعهم ينطلقون من مبدأ تخادم السياسة والدين، وليس ترشيد السياسة وهدايتها بالدين، ولا يهمهم كثيرًا من يرفع شعار التدين السياسي وما إذا كان صالحًا في نفسه أو فاسدًا، وإنما الذي يعنيهم هو تحقيق أجنداتهم السياسة المغلفة بالدين.
وفي الوقت الذي تنأى فيه المجتمعات الإسلامية بالدين عن ألاعيب الساسة، نجد عودة محمومة للمسيحية البيضاء للعب دور محوري من خلال الأحزاب اليمينية في الغرب. هذه الصحوة نجدها واضحة أيضًا في الهند.
إن قيام أحزاب سياسية، وانتخاب زعماء على أسس دينية سياسية لن يكون فيه خلاص للمجتمعات الإنسانية، وإنما ينذر بتعجيل المواجهات والحروب القائمة على أسس دينية. فالناظر المتأمل لواقع المجتمع الأمريكي يدرك عمق الانقسام بين مكوناته، ومن يقرأ أدبيات الإنجيليين يصدمه إيمانهم الراسخ بنظرية المؤامرة وبالمعتقدات الدينية التي تستعجل الصدام مع المعتقدات الأخرى. ولذلك فإنه ليس من الخير للأديان الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام أن تؤسس السياسة على معتقدات دينية قائمة على المناجزة والإقصاء وادعاء التفرد بالحق.