د.صالح العبدالواحد
جميع الأمراض التي عالجها نبي الله عيسى عليه السلام وذكرها الله لنا في القرآن الكريم، لا يوجد لها علاج إلى هذا اليوم، بل لا يتوقّع العلم أن يتم اكتشاف علاج لتلك الأمراض نهائيًا.
في هذا العصر لا يمكن قبول خطة علاج أو أي طريقة جراحية على أنها «معجزة»، فقد انقطع الوحي. ويحكم العلم فقط جميع إجراءات العلاج الحديث.
هذا المقال علمي، توعوي للمجتمع بشكل عام، والإدارة الطبية بشكل خاص. الهدف هو كشف بعض الخفايا في الإجراءات الطبية، حتى لا يصبح المواطن السعودي «حقل تجارب» طبياً، ضمن مجال الترويج الإعلامي. وقد تم عرضه قبل النشر على مجموعة من الزملاء لإبداء الرأي بغرض الوصول إلى الهدف.
سأقوم بسرد بعض النقاط المهمة التي توضح للقارئ الكريم بعض خفايا العمل الطبي، ودور وسائل الدعاية الإعلان، ووسائل التواصل الاجتماعي في العمل الطبي. وجود طريقة جراحية جديدة قد يصبح خبرًا تتناوله محطات التلفزيون وبعض البرامج الطبية، ولكن لا يمكن أن يكون هناك دعاية أو إعلان لتلميع صورة طبيب بهدف زيادة «الزبائن»، فهذا مناف لأخلاقيات مهنة الطب.
يتم دراسة أي طريقة جراحية جديدة، تفيد المرضى بشكل مكثف من قبل المجالس العلمية، لتصبح تلقائيًا بعد ذلك «المنهج» الذي يجب على جميع الأطباء اتباعه، بل و»يجب» اتباع الطريقة الجديدة من قبل جميع الأطباء، وإلا فإنهم سيصبحون عرضة للملاحقة القضائية عند حدوث أي مضاعفات طبية لديهم، فمصلحة المرضى الطبية ليست مجالاً للغرور العلمي والعناد المهني. ولذلك يجب على جميع الممارسين متابعة التطورات الحديثة من خلال حضور المؤتمرات العلمية وقراءة الأبحاث العلمية.
«التأثير الإعلامي»
تناولت جميع وسائل الإعلام العالمية إجراء جراحة قلب لجنين في بطن أمه كحدث علمي نادر. لم يكن الهدف تلميع اسم الطبيب وجلب «الزبائن» بقدر ما هو نقل الخبر الرائع عن إجراء طبي نادر في تاريخ البشرية. أجرى العملية في مستشفى كليفلاند المصنف في المركز الأول عالميًا طبيب سعودي اسمه هاني نجم.
الطفل ريلاند الذي خضع للعملية وهو جنين، يتم عامه الأول هذا الشهر بعد أن سخر الله له مهارة الدكتور هاني نجم ليبقى على قيد الحياة.
رغم النجاح العالمي للعملية، وبراعة الدكتور نجم إلا أنه لن يستطيع أن يجري هذه العملية في السعودية أو في بريطانيا أو في موزمبيق، دون الحصول على الرخص التي تخوله من ممارسة الطب في تلك الدول، واجتياز جميع الإجراءات التنظيمية والنظامية له شخصيًا ولتلك العملية تحديدًا.
لا تحمل شهرة الطبيب في وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي أي ميزة في التصنيف الطبي أو في الأدب الطبي.
الدكتور هاني نجم وحسين بلخي ومحمد الدوسري وغيرهم الكثير يعملون في أفضل المراكز العالمية، تخرجوا من المدارس السعودية، ونشأوا على تراب هذا الوطن، وتخطوا الصعاب ضمن قوة الإرادة والتخطيط السليم الذي وصل بهم ليصبحوا رؤساء أقسام في أفضل المراكز الطبية تصنيفًا في العالم.
هؤلاء النخبة من الأطباء هم نتيجة استثمار الدولة في الإنسان، مكنتهم خطة التطوير من الالتحاق في برامج تدريب رفيعة المستوى، فأبدعوا، وأفادوا البشرية.
لم تلعب «الشهرة الإعلامية» أي دور في وصولهم إلى أعلى مركز إداري في المهنة، بل بالكاد يظهر أحدهم في الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. ينحصر دور الإعلام في حال الرغبة في استضافتهم على تحفيز الأجيال الصاعدة، وعدم الاستسلام عند وجود أول مشكلة تواجه الإنسان في الحياة. وهذا هدف عظيم.
«براءة الاختراع»
تعتبر شهادة براءة الاختراع وثيقة حماية «فكرة» أو «مكونات» جديدة لم يتم استخدامها من قبل. ولا تعني أبدًا أن هذا «الاختراع» أفضل من غيره. أما طبيًا، فلا تحمل هذه الشهادة أي قيمة علمية إلا «بعد» التحقق من جدواها العملية والاقتصادية وذلك بعد تجربتها على آلاف المرضى. تكمن أهمية براءة الاختراع في حماية التركيب الكيميائي للدواء من التقليد خلال فترة التجارب العملية التي قد تستمر لعدة سنوات. لا يمكن أبدًا أن يقوم طبيب بعلاج مرض معين فقط لأنه قد حصل على «براءة اختراع».
إن استخدام علاج على أساس وجود «براءة اختراع»، وليس من قبل «تسجيل مهني»، يعني خضوع جميع المرضى الذين يتناولون ذلك العلاج إلى «تجربة» علمية ضمن «حقل تجارب» ضخم.
«عملية فونتان»
فرانسوا فونتان جراح فرنسي اكتشف طريقة جديدة في جراحة القلب لدى الأطفال، ومن ثم حصل على موافقة المجلس العلمي في بلاده على إجراء العملية. بعد أن أثبت فونتان نجاح طريقته الجراحية تم اعتمادها لدى جميع المجالس العلمية العالمية. «عملية فونتان» الآن هي العملية التي «يجب» أن تجرى لذلك الداء على جميع الأطفال المصابين في العالم.
لا يطلق على ذلك الاكتشاف «براءة اختراع»، ولا يتقاضى فونتان أي مقابل مادي جراء تقديمه طريقة جراحية جديدة للبشرية، وسعادته الحقيقية أن يجري عمليته أكبر عدد من جراحي القلب. يكتفي فونتان بتخليد اسمه على سجلات جراحة القلب في غرف عمليات الكرة الأرضية بشكل يومي، ولسنوات طوال بعد وفاته.
خلال حياته، يحضر فونتان المؤتمرات الطبية ملبيًا الدعوات المهنية، وفي أحد المؤتمرات الطبية، طلب فونتان من جميع الحضور توجيه أسئلتهم الخاصة بالعملية (التي اكتشفها هو)، إلى الجراح السعودي الدكتور زهير الهليس، والسبب أن الهليس أجرى «عملية فونتان» أضعاف العدد الذي أجراه الجراح فونتان نفسه، وأن الحالات التي وصفها الدكتور الهليس في بحثه كانت أصعب بكثير من الحالات التي عايشها فونتان.
ومن الطريف أن الدكتور زهير الهليس تتم دعوته بشكل «رسمي» إلى كندا، لإجراء عمليات القلب المفتوح المعقدة على المواطنين الكنديين، لما يتمتع به من مستوى جراحي متقدم وخبرة عالمية وعلمية رفيعة المستوى، ومع ذلك لم يتم استضافته في أي برنامج تلفزيوني في كندا ولا في السعودية.
«الألم»
يعتبر الألم من الأعراض الطبيعية بعد أي عمل جراحي سواء كانت عملية اللوز أو فتح خراج في الجلد أو تبديل مفصل في الساق. وتتمحور مهنة الطب حول قتل الألم، وهو أهم الأعراض التي يجب على الطبيب محاربتها. ويعتبر إعطاء مسكن الألم سواء بتخدير «المنطقة» الجراحية بالحقن موضعيًا، أو حبوب عن طريق الفم، خطوة علاجية مهمة.
ينتج الألم بعد أي عمل جراحي يتم به شق الجلد. حيث يحتوي الجلد على كمية تغذية عصبية حسية، بينما لا يحتوي العظم على أي مورد حسي عصبي. وبالتالي فإن الألم الناتج عن عمليات المفصل الصناعي تنتج من الجلد أولاً، ثم من الأنسجة المحيطة. ولا يمكن لأي مريض أن يتحرك إلا بعد التئام الجرح أو تخدير المنطقة باستعمال التخدير الموضعي للمنطقة الجراحية وبكميات وافية. يقوم بإجراء تسكين الألم طبيب متخصص بالألم، وهذا الآن تخصص فرعي دقيق من تخصص التخدير.
يجب أن يتحقق المريض عن خطة علاج الألم بنفس أهمية العلاج الجراحي.
«الطب المُبرهن»
يتم تصنيف أي بحث طبي بناء على قواعد بحثية لا يمكن الحياد عنها، لا تخضع للرأي الشخصي نهائيًا. ولا يتم نقد أي إجراء طبي أو تحقيقه إلا ضمن إجراءات علمية معروفة. هذه الطرق العلمية لا تترك المجال أمام أي شخص لتسويق عملية جراحية أو نقدها والانتقاص منها بعد قبولها لدى المجتمع الطبي إلا ضمن نطاق علمي محدد. ويُسمي هذا العلم: «الطب المُبرهن»، Evidence Based Medicine.
وعليه فإن نجاح أي عملية جراحية نادرة، على يد أي طبيب حتى ولو كان الجراح هاني نجم، لا يعني نجاحها «العلمي» إلى أن تجتاز تقييم الطب المُبرهن. ويبقى عمل الطبيب تحت تصنيف «إنجاز فردي» - Anecdotal experience-، ويبقى إنجازًا «محدودًا» مهما كانت معايير النجاح واضحة للعيان!
وخير مثال على ذلك هو نجاح طبيب أمريكي اسمه جون شيا في جراحة إعادة السمع منذ ستين عامًا للمرضى المصابين بفقد السمع نتيجة تصلب العظيمات. نجاح هذه العملية لا يحتاج إلى أي تقييم أو دعاية أو «شهادة شهود»! فالمرضى يدخلون إلى غرفة العمليات مصابين بنقص السمع، ويخرجون وهم يسمعون بشكل طبيعي تمامًا أمام ذهول وسعادة جميع المحيطين بهم. لم يتم اعتماد هذه العملية في المجالس العلمية إلا بعد أن اجتازت التقييم العلمي. بعد ذلك، أصبح لزامًا على أي جراح اتباع طريقة «جون شيا»، والتوقف عن أي إجراء جراحي متبع سابقًا.
لم يحصل الدكتور جون شيا على «براءة اختراع» ومع ذلك يعرف العالم أجمع أنه وراء هذا الإنجاز الرائع.
«النجاح الشخصي»
الدكتور سعيد القحطاني، أستاذ جراحة العظام في جامعة الملك خالد في أبها خير مثال على النجاح الشخصي البعيد عن الدعاية والإعلان. ورغم أن محطة مثل الـCNN لم تتناول عمله مثل الدكتور هاني نجم، إلا أن نجاح الدكتور سعيد لا يخفى على أحد.
كان الدكتور سعيد، وما زال، ما شاء الله عليه يتمتع بمهارات يدوية عالية، مكنته من العمل في تخصصه بكل مهارة وحرفية، وأروي لكم ما يدل على مهارته العالية من قصة مشهورة في قسم الجراحة منذ أن كان متدربًا في كندا.
فبينما كان أحد الاستشاريين الكنديين يجري عملية تبديل مفصل لمواطن كندي، واجه الاستشاري صعوبة في إتمام العملية، فالعمليات الجراحية مثلها مثل أي مهنة بشرية، قد يواجه الجراح خلالها صعوبة يحتاج معها للمساعدة. ومن الطبيعي جدًا أن يطلب استشاري الجراحة زميلًا استشاريًا له ليساعده، فحياة المرضى كما ذكرنا ليست مكانًا لاستعراض الغرور المهني.
بعد عدة محاولات فاشلة لتركيب المفصل الجديد للمريض، لم يطلب الجراح زميله الاستشاري، ولكن طلب حضور الدكتور المتدرب: سعيد القحطاني، للتوجه إلى غرفة العمليات على وجه السرعة. وفور وصول الدكتور سعيد وانضمامه إلى فريق العمل الجراحي، تناول المفصل وبحركة ماهرة واحدة، استغرقت أقل من دقيقة، قام الدكتور سعيد بتركيب المفصل في جسم المريض.
استأذن بعدها الدكتور سعيد وطلب مغادرة غرفة العمليات ليقوم بإتمام مهامه الأخرى في المستشفى، ولكن قبل أن يغادر أوقفه الاستشاري الكندي وقال له: سعيد.. أين اتجاه مكة؟
أشار له سعيد نحو اتجاه القبلة، ليقوم الاستشاري بحركات الركوع شاكرًا الله على أن تمت هذه العملية على يد هذا الجراح المبدع.
سعيد القحطاني لم يقدم «معجزة» طبية، فتلك المعجزات انتهت بعد عيسى عليه السلام، ولكنه يملك مقومات المهارة اليدوية التي استحقت التقدير من قبل رؤسائه.
يحمل الدكتور سعيد القحطاني منذ أن عاد إلي الوطن، إضافة إلى دوره التعليمي، دورًا في نقل أفضل مستوى جراحي في العالم إلى مدينته الجميلة. لا يوجد أي دور للدعاية والإعلان في نجاح الدكتور سعيد المهني. ولا يوجد أي ضرورة لأن يحمل أبحاثه معه ويعرضها على المراجعين ليصدقوا مهارته!
ورغم حصوله على الشهادة الكندية العالمية المعترف بها في تخصصه، إلا أنه كان عليه اجتياز عقبات الحصول على رخصة المهنة محليًا من هيئة التخصصات الصحية السعودية حيث يخضع حملة الدكتوراه السعوديين لاختبار في مقر الهيئة، ويُطلب منهم تجديد الترخيص والحصول على تأمين والعديد من الإجراءات التنظيمية لحماية المواطن من أي إجراء غير نظامي.
«اختيار المريض» - «Patient selection»
عند إجراء تقييم علمي لأي عملية جراحية أو دواء، يجب أن يتم تسجيل النتائج على جميع المرضى الخاضعين للتجربة العلمية، من جميع الأعمار والأجناس. أما في الحياة العملية يمكن بالطبع أن يختار الجراحين المرضى الأصغر سنًا، وكذلك المرضى الذين لا يوجد لديهم أمراض مصاحبة مثل الضغط أو السكر، وما إلى ذلك من العوامل التي قد تؤثر سلبًا على نتيجة الجراحة. لذلك تختلف النتائج التي يتم تقديمها. إجراء عملية جراحية لمريض وزنه مثالي تختلف بالطبع نتيجتها عن مريض لن يستطيع الوقوف منفردًا بسبب زيادة الوزن.
وفي الختام أود أن أوضح للقارئ الكريم نقطة مهمة جدًا سواء في جراحة العظام واستبدال مفصل الركبة أو جراحة التجميل أو غير ذلك، وهي أن «التسويق الإعلامي»، ووسائل التواصل لا تعني نجاح الطبيب وتميزه عن غيره. ويجب الحذر من ذلك الآن ومستقبلًا.
إن زيادة الوعي لدى المواطن تعتبر خطوة مهمة قبل اتخاذ القرار الجراحي، ومن المفيد أخذ «رأي ثاني» يعتمد على استشارة طبيب أخر قبل أي إجراء طبي. وهذا إجراء متعارف عليه في المجال الطبي ولا يعني عدم الثقة أو الشك في قدرات أي طبيب.
كما يجب على الجراح أن يقوم بشرح المشاكل المحتملة من العملية ونسبة حدوثها بنفس الأهمية التي يشرح بها فوائد العمل الجراحي ضمن إجراءات التوقيع على «الإقرار الطبي»، لإخلاء مسؤولية الجراح القانونية.
يجب على المرضى معرفة حقيقة ثابتة، وهي أن «المضاعفات الطبية» لا تظهر أمام الإعلام، وخاصة في مجال جراحة التجميل، حيث تخضع الصور «قبل» و «بعد» جراحة التجميل لمونتاج فني كبير، يهدف إلى التسويق التجاري البعيد كل البعد عن مهنة الطب.
** **
زمالة الكلية الملكية الكندية للجراحين - زمالة جامعة الملك سعود