د.سالم الكتبي
لا خلاف على أن الوجود العسكري الإيراني القوي في سوريا يمثِّل أحد مصادر القلق والإزعاج والتهديد للأمن والاستقرار الإقليمي، ولكن لا خلاف أيضاً على عدم جدوى وفاعلية وضع النظام السوري في مواجهة خيار صفري قائم على مبدأ «مع أو ضد»، بمعنى تخيير دمشق بين العودة لحاضنتها العربية أو الإبقاء على علاقاتها مع النظام الإيراني، ليس فقط لأن هذا التخيير يمثِّل مجازفة وربما رهان خاسر، من خلال فهم وجهة النظر والموقف الرسمي السوري على الأقل في المرحلة الراهنة، ولكن أيضاً لأن مبررات هذا التخيير في التوقيت الحالي قد تبدو ضعيفة أو غير مبررة وفقاً للجانب السوري بالنظر إلى قدم التحالف بين دمشق وطهران.
لا أكتب هنا دفاعاً أو تبريراً لموقف النظام السوري، فالأمر أشمل من الدفاع عن وجهة نظر أو تفنيدها لأنه يتعلق بملف الأمن الإقليمي ككل، ومن ثم فإن دافعي الأساسي هو التعامل بموضوعية وعقلانية شديدة مع حالة تحتاج إلى ذلك بالفعل، بحكم ما تراكم عليها من تعقيدات وتفاصيل تتطلب من الناظر إليها قدراً كبيراً من الغوص في التفاصيل والدقة في الفهم والحذر في إصدار الأحكام وبناء المواقف السياسية والإستراتيجية. وإذا كنا بصدد مناقشة هذه المسألة بهدوء، علينا أن نقر مبدئياً بأن علاقات التحالف التي نراها بين سوريا وإيران ليست وليدة اليوم ولا حتى الأمس، بل تتكئ على ماض بعيد كانت خلاله سوريا جزءاً فاعلاً وركناً أصيلاً وركيزة أساسية للأمن والاستقرار في عالمها العربي بموازاة علاقاتها القوية مع إيران، وبالتالي فإن هذه العلاقة - رغم كل التحفظات عليها - لم تكن عائقاً في وجود علاقات طبيعية لسوريا في محيطها العربي، بل لم تكن دافعاً لتجييش وتسخين الموقف السوري الرسمي ضد إسرائيل رغم حالة العداء التي كانت - ولا تزال - تسيطر على العلاقات بين دمشق وتل أبيب.
وإذا كنا سنمضي في طريق النقاش الموضوعي، علينا أن نقر كذلك بأن لتنامي النفوذ السياسي والعسكري الإيراني في سوريا أسباباً معروفة للكثيرين، ولنا - كعرب - دور كبير فيها، وإذا كان التمدد الإيراني قد جاء خصماً من رصيد البعد العربي في العمق السوري منذ عام 2011، فإن من باب الواقعية، بل والضرورة، السعي نحو طي صفحة الماضي القريب وإعادة بناء الجسور بين دمشق وشقيقاتها العربيات.
وأعتقد أنه لا خلاف كبير بيننا كعرب، وحتى بيننا وبين وجهات نظر جيران آخرين في مقدمتهم إسرائيل، على أهمية استقرار سوريا والحفاظ على أمنها، ولكن يبقى من الجائز تباين وجهات النظر حول سبل تحقيق ذلك، أي أنه هناك توافق حول الإستراتيجية وتباين حول تكتيكات تنفيذها، وهذه مسألة يمكن تقريب وجهات النظر بشأنها، لاسيما في أهمية عودة سوريا لأن الأمر لا يتعلق - كما يُقال - بإعادة تأهيل نظام الرئيس الأسد عربياً ودولياً، بل يتعلّق بالأساس بمصلحة عربية وإقليمية أساسية في إنهاء حالة الفوضى وعدم الاستقرار وبدء إعادة الإعمار في سوريا بكل ما يعنيه ذلك على صعيد استئصال جذور الإرهاب وفتح أبواب الأمل أمام الملايين من الشباب السوري الذين تتربص بهم تنظيمات الإرهاب وعصابات المرتزقة وتزج بهم في حروب وصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ومن بعد ذلك خلق الفرص والأجواء اللازمة لمناقشة الأمر كله مع الدولة السورية.
لنعترف أيضاً بأن بقاء سوريا بوضعها الحالي في حالة عزلة عربية وإلى حد ما دولية أو بالأصح غربية، ليس في مصلحة أي طرف إقليمي، وأن الرهان على أن الحالة ستدفع دمشق للتخلي عن علاقاتها مع إيران ليس واقعياً بالمرة، لأسباب بعضها يتعلَّق بالنظام السوري وبعضها الآخر يرتبط بالجانب الإيراني الذي يرى أنه «استثمر» كثيراً من أجل الوصول إلى هذه «الحالة» والوضعية الإستراتيجية التي طالما حلم بها وخطط لها.
قناعتي الشخصية أن ما تفعله إيران في سوريا أيديولوجياً وديموجرافياً أخطر بمراحل مما تفعله على الصعيد العسكري والأمني، فمنذ سنوات نتابع كيف تعمل إيران جدياً على إعادة هندسة المدن والمناطق السورية ديموجرافياً باستغلال الظروف التي أفرزتها الصراعات العسكرية وتجريب هذه المدن والمناطق من سكانها ونزوحهم لمناطق أخرى داخلياً أو لجوئهم للخارج. وفي ذلك يمكن رصد تقارير غزيرة تتحدث عن تموضع إيران في الداخل السوري باستخدام مختلف أدوات التغلغل الأيديولوجي مثل الجمعيات الخيرية التي تمزج بين نشر التشيع وتقديم المساعدات الإنسانية، بل إن هناك عمليات لإعادة تأهيل المساجد واستخدامها في نشر الفكر الشيعي. والحديث هنا لا ينطلق من تحفظ على الهوية الدينية السورية، سواء كانت سنية أو شيعية، ولكنه يرتبط أساساً بتوظيف هذه الورقة الدينية الحساسة في السيطرة على بلد عربي، والتخطيط لبقاء طويل الأمد وضمان نفوذ أيديولوجي قوي للنظام الإيراني في العمق السكاني السوري، بما يضمن لطهران استمرار الدور والنفوذ كما يحدث في الحالة العراقية على سبيل المثال!
لكل ما سبق وغيره، لا اتفق مع ارتهان عودة سوريا إقليميًا وعربياً بقطع علاقاتها مع إيران، بل الأصح - في تقديري - هو خلق المزايا والفرص والمصالح التي تدفع أي نظام سياسي سوري لإعادة تقدير مواقفه وتقييم حسابات الأرباح والخسائر في علاقاته الإقليمية والدولية، ولا أعتقد - كمراقب - أن من الصواب تكرار الأخطاء وترك سوريا والتخلي عنها مجدداً في وقت تتحدث فيها التقارير عن قنوات حوار بين دمشق وأنقرة.