مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
توقفت متخصصة في العلوم الشرعية عند أقوال وأفعال وأحوال الناس، وفق ما رصدته في المسجد الحرام، مستهلة حديثها بقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج:30]، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج:32].
وقالت الأستاذة الدكتورة ابتسام بنت بدر الجابري أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم في جامعة أم القرى:
لقد وجدت أن أصناف الناس في التعظيم ثلاث:
1 - صنف استشعر التعظيم فبالغ فيه حتى قذف به في مهاوي الشرك والبدعة والتبرك الممنوع.
2 - صنف غاب عنه التعظيم حتى هوى به في الخطأ والتقصير والمعصية.
3 - صنف استشعر التعظيم وخالط قلبه فظهر على حركات لسانه وجوارحه، وقد توسط الفريقين باستقامته.
وقدمت الدكتورة ابتسام الجابري أمثلة على هذه الأصناف؛ فبعض الناس من الصنف الأول يأتون بأسحار وخيوط ويطلبون من الناس في الحرم فتحها أو عقدها ظناً منهم أنها تنفع أو تضر، وإذا حدثهم أحد قالوا سبق من فعل كفعلنا وانتفع، وبعضهم يضع مثلها في جنبات الحرم، أو يتمسح بالسواري والجدران ونحوها، أو يأخذ من سجاد الحرم أو مصاحف الحرم وغيره، متبركاً وظاناً أنها تنفع أو تضر، وأما الصنف الذي غاب عنه التعظيم فحاله مؤلم كذلك أيما إيلام، فهناك في جنبات الحرم من يأكل ويشرب ويقوم من مكانه، وقد ترك المكان أسوأ ما يكون غير مستشعر لحرمة هذا المكان وعظمته، وأخرى تطوف بالبيت وتشير بالحذاء الذي تمسكه بدون كيس أو حقيبة، تشير به من الجهة السفلى لفردتي الحذاء تجاه الحجر الأسود، ذاك الحجر الذي قبله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أشار إليه بعصا قبّل تلك العصا، وإذا حدثتها تقول طيب ماذا أفعل؟ وإذا باليد اليسرى فارغة، لكن غاب عنها التعظيم، وأما البصاق الذي يفعله بعضهم دون أي اعتبار شرعي أو إنساني أو حتى حضاري، فحدّث عنه ولا حرج، ومن العناوين التي عنونها البخاري رحمه الله، قال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لما رأى نخامةً في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده)، ألا يستوقف هؤلاء فعل نبينا محمد صلى الله عليه في حك النخامة بيده؟ بينما نجدهم يتنخمون في أي مكان دون اعتبار، وتجد بعضهم يتوضأ على سجاد الحرم، أو يكون مصاب بداء فيغسل موضع الداء على السجاد، وإن كان هناك جهات تعمل جاهدة ليلاً ونهاراً على التنظيف، لكن لا يعني ذلك أن نخالف نحن فلا نستشعر حرمة المكان، ويغيب عنا معنى التعظيم، هل يرتضونه لدورهم؟ بلا شك لا يرتضونها لدورهم، فلم ارتضوه للمسجد الحرام بيت الله.
واسترسلت الدكتورة ابتسام الجابري القول: وهناك صور الحجاب أو اللباس غير الشرعي أوالعطور والبخور أو الزينة التي تتزيّن بها النساء في المسجد الحرام إلى حد أن تقول هذا ليس مكياجاً هذا توريد أو تاتوه أو أتزين لنفسي، ونحو ذلك، على أقل تقدير ليس هذا مكانه، أو ما يكون من الانشغال طوال الطواف بأمور أبعد ما تكون عن تعظيم هذا المكان واستشعار هذه الشعيرة أو تجاوز بعضهم في السباب واللعان والشجار، بل والضرب أحياناً ودفع الناس وغير ذلك، وأما الصنف الثالث وهم من خالط التعظيم شغاف قلوبهم فظهر في دموع أعينهم وعلى حركات ألسنتهم وجوارحهم؛ فتجده منذ دخوله إلى الحرم استشعر أنه بلغ أعظم أمانيه، فأقبل قلبه بكليته على ربه، فعاش تلك اللحظات والسويعات والأيام متنعماً بشعور التعظيم والإقبال على الله، وعزم قبل رحيله بعودة صادقة إلى الله، فكانت رحلته إلى المسجد الحرام سلماً يرتقي بها في درجات التقوى في الدنيا، ليرقى بها في درجات الجنة في الآخرة، فما أعظمها من غنيمة، وتجد هذا الصنف التزام شعور الحرمة في طوافه وسعيه وصلاته وتعاملاته وهيأته، بل وينظف ما قد تركه غيره احتساباً واعتباراً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعين الكبير والضعيف، ويحرص على كل طاعة وخير دون شرك أو ضلالة، مشيرة إلى أن تفاوت الناس هذا هو باعتبار تفاوت التعظيم في قلوبهم، فالجاهل وإن كان جاهلاً لكن متى خالط التعظيم شغاف قلبه لن يتجرأ على فعل صور شتى مما يخالف التعظيم الحق.
وسالت الله في ختام حديثها: أن يرزقنا هداية وسداداً ورشاداً، وأن يتقبل منا وأن لا يحرمنا فضله ويغفر لنا ويتوب علينا، وأن يجعلنا ممن صام وقام رمضان إيماناً واحتساباً فغُفر له.