تابعت كغيري الحفل البهيج الذي أقامه أهالي عنيزة احتفالاً ومحبةً وتقديرًا لأستاذنا إبراهيم التركي، هذه التظاهرة الثقافية لم تكن غريبة ولا مستغربة على مجتمع عنيزة الجميل، كونه يزهو بكثير من صور البذل والحب والعطاء في شتى المجالات الإنسانية.
التركي له مع الحرف قصة ومع العطاء الثقافي صور ومواقف، عرفته في فترة متأخرة من حضوره المديد والمشرق، وشغفت بعطاءاته المتنوعة، وكنت وسأظل مدينًا له بأول حضور كتابي لي، والذي كان عبر صحيفة الجزيرة في ملحقها الثقافي الأصيل.
كنت وما زلت أنتظر مقالة إبراهيم التركي كل يوم خميس، وكنت أعيد دوزنة حروفه وكلماته وصياغتها في قوالب شخصية تخصني، من خلال قراءة ما وراءها وما قبلها، وانتظار ما سيأتي بعدها، في محاولة مني لتشكيل لوحة خلاقة وسمة إبداعية تخص هذا المبدع، وتكون بالنسبة لي صورة تختزنها الذاكرة، وتختزلها لتظل حاضرة ولزمة مصاحبة للذائقة عندما يحضر هذا البهي وصوره وتراكيبه اللغوية البديعة.
كانت مقالته سفرًا من الجمال، وعنايته بالمفردة كانت تجعلك أسيرًا لمدرسة كتابية متفردة لها سمتها وصفتها ورونقها الخلاق، كونها تغرف من قاموس لغوي أصيل، ومعان إنسانية بديعة، وأفكار متراصة تحوطك أصالة، وتحيطك علماً وفائدة بالموضوع، كونه قد بني على أسس جمالية أصيلة ورزينة.
مقالة التركي أصّلت خطه الكتابي، الذي كان وما زال امتدادًا لمواقفه الثقافية المعتدلة والوسطية، والوسطية لا أعني بها الدبلوماسية أو المواربة، أو الاختفاء خلف معان تحتمل التأويل حسب المواقف وأزماتها وأزمانها، ولكنها الوسطية التي تعني النقاء والكمال وحفظ حقوق الآخرين عند الاختلاف والاتفاق، فلم يعهد عنه إسقاط فكري أو ثقافي على أحد، ولم يكن منشغلاً بوسوم الجدل وما يصاحبها من مآس مجتمعية وعداء وسخط. كان خطه الكتابي يؤسس لحراك معرفي متصّل وليس منفصلاً، متصلاً بمواقفه المعلنة النزيهة البعيدة عن الإسفاف والتجني على الآخرين، ومنفصلة عن صخب الشعبوية الذي يبحث عنه كثيرون لتسجيل حضور يبقيهم في الذاكرة الجمعية ردحًا من الزمن. التركي في «الجزيرة الثقافية» كان صحافياً ملهماً وكان يستطيع الموازنة بين حضور الصحيفة وخطها التحريري وما يتطلبه هذا الحضور من حرية رأي تضمن للجميع المشاركة والطرح والتقييم، فكل الآراء مرحب بها وكل التوجهات تسمو لتكون في ميزان العدالة والإنصاف إضافة تحسب للصحيفة وخطها التحريري المتزن الذي يجعلك أسيرًا لحرية منضبطة يتماهى الجميع حولها اتفاقًا، ويكون الاختلاف هو الثراء الذي يُبقي الثقافية حاضرة، كوثيقة فكرية تؤرشف إبداعات الكثيرين لتكون السجل وساحة السجال التي حفظت للجميع حقهم في البوح والاختلاف والتعبير والتغير والتغيير.
كثيرة هي مآثر أستاذنا إبراهيم وعديدة مواقفي الشخصية معه، وأولها الامتنان لشخصه الكريم وصولاً إلى إضاءاته الثقافية والفكرية المتعددة وصولاً إلى حفل أهالي عنيزة الأوفياء.
شكرًا أهالي عنيزة على هذه التظاهرة الثقافية البهية، وشكرًا لأستاذنا الأبهى في ذلك المساء الجميل الذي تألق كعادته فكان حضوره في ذلك الحفل هو مسك الختام لحقبة من التميز صاحبته ولازمته طوال رحلته الجميلة، وعطر البداية لزمن قادم أجمل، ولمَ لا فهو الأصيل الذي يكتب لمرحلة زمنية آتية ليؤصّل المعنى الحقيقي لحضور المبدع الجدير، وبقائه حياً في زمن غيابنا القادم الذي لا مفر منه.
** **
- علي المطوع