اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من الواضح أن الصراع الروسي الأوكراني منذ اليوم الأول اتخذ بعداً عالمياً تداخل فيه العامل الأمني مع العامل الاقتصادي بصورة غير مسبوقة في الصراعات البينية الأخرى، ومرد ذلك يعود إلى طبيعة الصراع والقوى الكبرى التي تشترك فيه، وتلك التي تديره عن بعد، وما أفضى إليه هذا الأمر من ارتفاع سقف المخاوف الأمنية والاقتصادية على المستوى العالمي، نظراً لما يلوح في الأفق من تداعيات واحتمالات يصعب التنبؤ بما تؤول إليه من مآلات وما يترتب عليها من تبعات في ظل تعارض الأهداف والمصالح.
والمنطلقات التي تنطلق منها هذه المخاوف بشقيها الأمني والاقتصادي تتحكم فيها القوى الكبرى ذات النزعة العدوانية والتطلعات الاستعمارية التي جعلت من الصراع في أوكرانيا مسرحاً لتصفية الحسابات وتصادم الإرادات على نحوٍ أدخل الصراع في نفق مجهول، يُخيّم عليه واقع النظام العالمي المتهالك الذي تغلب عليه المؤامرات وتعصف به الأزمات من جراء الهيمنة الأمريكية ونظام العولمة وسياسة القطب الواحد.
والهاجس الأمني الذي خلقته الحرب الأوكرانية لم يعد مقصوراً على أطراف الصراع المباشرين وغير المباشرين والدول الواقعة في دائرة التأثير، بل أصبح هذا الهاجس هو الشغل الشاغل بالنسبة للمجتمع الدولي الذي يجد في تراكم الأزمات وتسارع الأحداث ما يجعله يشعر بالخوف من حدوث مضاعفات مدمرة، وخروج الأمور عن السيطرة بسبب طبيعة الحرب وأهداف ومواقف الأطراف المشتركة فيها ونوع الأسلحة الذكية وأسلحة التدمير الشامل التي تمتلكها هذه الأطراف.
ومما يزيد الموقف سوءاً إنما يحصل في هذا البلد الأوروبي يدور في فلك المنافسات الاستعمارية ومحاولات الدول الكبرى إخضاع الدول الصغيرة لإرادتها طمعاً في إقامة مناطق نفوذ على حسابها، مهما أدى إليه هذا العمل الظالم والتصرف الآثم من تدمير القرى والمدن وهدم المساكن على رؤوس سكانها، وقتل الشعوب وتهجيرها عن أوطانها، كما يحصل في أوكرانيا وسبق حصوله في فلسطين والعراق وسوريا وأفغانستان.
وانطلاقاً من هذه القاعدة تحولت أوكرانيا إلى ميدان صراع بين الشرق والغرب يلتقي فيه سلاح القتال مع سلاح المال، وتقف عند طرفيه روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والشعب الأوكراني هو الضحية الأولى لهذا الصراع كما أن الدول الأوروبية وجدت نفسها في دائرة ضيقة نتيجة لما تعانيه من المخاوف والتهديدات الحدودية وحاجتها إلى الطاقة الروسية من جهة، وارتباطاتها السياسية والأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.
ورغم ذلك فإن هذه الدول عادة ما تصنعها الأزمات وتجمعها الحروب حيث وجدت في الهجوم الروسي على أوكرانيا دافعاً يدفعها إلى الالتفاف حول بعضها البعض، منسقةً ردود أفعالها بشكل استطاعت من خلاله توحيد جهودها والعمل المشترك فيما بينها مع العمل على التقارب الأمني والتنسيق السياسي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، مكتفيةً بفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، وتقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، الأمر الذي اعتبرته روسيا بمثابة إعلان حرب اقتصادية وحرب عسكرية بالوكالة ضدها.
والواقع أن ما يحصل في أوكرانيا ما هو إلا شكل من أشكال الصراع على المصالح والنفوذ بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو صراع تحتل القارة الأوربية فيه مكانة خاصة، وتمثِّل أهم محطة من محطاته مع ملاحظة أن هذا الصراع بالنسبة للجانب الأمريكي يتطور في تناسب طردي، كلما تطورت العلاقات السياسية والاقتصادية بين روسيا وبعض الدول الأوروبية، والدافع وراء هذا التطور يكمن في حرص واشنطن على تدمير هذه العلاقات واستعادة السيطرة على الدول الأوروبية والحيلولة بينها وبين التقارب مع روسيا.
وبمعنى أدق فإن هذا الصراع في حقيقته يعتبر صراعاً من أجل النفوذ، إذ تحاول روسيا استخدام إمداداتها من الطاقة سلاحاً لتحقيق أهدافها السياسية واستعادة شيئاً من موروثها القديم وتوسيع إمبراطوريتها من جديد في حين تحاول أمريكا أن يتوسع حلف شمال الأطلسي على حساب حلف وارسو المنحل وصولاً للحدود الروسية، الأمر الذي يصعب معه التمييز بين الحق والباطل من خلال امتطاء الأمن تارة والديمقراطية تارة ثانية وحقوق الإنسان تارة ثالثة، والتذرع بذلك لجعل الباطل حقاً من أجل بسط النفوذ المرفوض وتحقيق الهدف الاستعماري المبغوض.
ولتحقيق هذا الهدف لم تستجب واشنطن لمطالب روسيا الأمنية وعملت على عرقلة المساعي السياسية علاوة على تسخين الموقف وتهيئة الأجواء للحرب لتضع الدول الأوروبية أمام الأمر الواقع بعد أن جعلت روسيا في موقف اضطرها إلى القيام بالحرب دفاعاً عن أمنها القومي ومصيرها الوجودي كما يدعي رئيسها، وتم الغزو وتحقق لواشنطن ما أرادت على حساب الشعب الأوكراني والدول الأوروبية والأمن والسلم الدوليين.
وبناءً على هذا الموقف فإن الرئيس الروسي اختار الخيار الصعب واتخذ قرار الحرب لتحقيق أهداف إستراتيجية لها تداعيات إقليمية وعالمية وتحقيقها يتطلب الكثير من التكاليف والتضحيات بالنسبة للإنسان والمكان، وما يعنيه ذلك من قتل وتهجير البشر وخراب وتدمير المقر.
وتنفيذاً لهذا القرار ها هي القوات الروسية تهاجم أوكرانيا من جهات مختلفة مستخدمة جميع أسحلتها المتوفرة وآلتها الحربية المدمرة دون أن تحسب حساباً للاتفاقيات والقوانين الدولية والاعتبارات الإنسانية، أو تأبه بما سوف يترتب على هذه الحرب من خسائر بشرية وآثار تدميرية، ناهيك عن التحولات الجيوسياسية والأزمات الاقتصادية التي أصبح الصراع على ضوئها صراعاً بين الشرق والغرب.
ولم تكتف القيادة الروسية بالزج بقواتها التقليدية وأسلحتها النوعية في ميدان المعركة، وإنما ذهبت بعيداً إلى التلويح باحتمال استخدام الأسلحة النووية في سابقة خطيرة تجعل من هذا السلاح سلاحاً هجومياً بدلاً من وظيفته الردعية، ضاربة بمفهوم الردع والضوابط الضابطة له عرض الحائط ومستبدلة الردع والأمان بوضع العالم على حافة الهاوية وأمام الضربة الماحقةِ الساحقة.
وقد تمكن الجيش الأوكراني ومعه المقاومة الوطنية من الاستفادة من أسلحة الغرب والدعم الغربي على نحوٍ ساعد على التصدي للهجوم الروسي في مراحله الأولى وتأخير وتيرة تقدمه وإفشال الخطة الأولية من الهجوم، ولكن الفرق الكبير في ميزان القوة والموقع الجغرافي لأوكرانيا وانفصال أجزاء واسعة منها، والعوامل القومية والثقافية والتاريخية، كل هذه الأمور وغيرها تصب لصالح روسيا وتجعل مستقبل الدولة الأوكرانية ومصيرها مرتبطين بالجوار الروسي في الوقت الذي يعتبر حيادها وابتعادها عن المعسكر الغربي هو المخرج المناسب لضمان وجودها وحل أزماتها.
وتحقيق روسيا لأهدافها من الحرب الأوكرانية كلياً أو جزئياً لا يعني ضمان أمنها والتخلص من تهديد حلف شمال الأطلسي لأن الحرب عززت حضور هذا الحلف في دول حوض البلطيق التي أصابها الذُعر بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا خوفاً من أن تكون هي الهدف التالي لروسيا.