أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: يأتي الأمر في كلام الله سبحانه وتعالى إنشاءً بصيغة الطلب، ويأتي اسماً للشأن الذي هو موضوعٌ لِتَعلُّق الأمرِ به ومن هذا صيغةُ يأتمرون في شأنهم أي يلتمسون التدبيرَ المناسب الذي يلتزمون به التزامَ المأمورِ للأمر، ومِن هذا المعنى وردت آياتٌ كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}[ سورة الطلاق/3] يعني مُنَفِّذاً الشأن الذي يريده جل جلاله، ومن ذلك قولُه تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}[ سورة النور/ 62]، وهكذا قولُه تعالى عن ليلة القدر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[ سورة الدخان/4]، والآيات في هذا كثيرة، والفارق في هذا أن جمع الأمر الطلبي أوامر، وأن جمع الأمر الذي هو الشأن أمور.
وقد سألني بعض طلبة العلم من الفضلاء عن أشياء تتعلق بالأمر والقضاء والكينونة والخلق، وأنا أعرف ما وراء هذا السؤال، وهو ما يعرفونه من مذهبي في مسألة التوقف.. ومن تلك الأسئلة ما يتعلق بالاستعاذة بكلمات الله ومن ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [سورة الطلاق/5] كأنه يريد أن القرآن لما كان أمراً أنزله الله فحكمه حكم الأمر من الله جل جلاله ينفذ به القضاء؛ ومع أنني إن شاء الله سأذكر معنى كل نصٍّ بإيجازٍ إلا أنني سَأُقَدِّمُ بين يدي ذلك مسائلَ ينتفي فيها خلط الأوراق، وتجزئة المراد الشرعي الذي لا يُعلم إلا بِضَمِّ النصوص بعضها إلى بعض من دون تجزئة؛ فالمسألة الأولى أن لله جل جلاله أَمَرَ أمرَين: أمراً كونياً وأمراً شرعياً؛ فالأمر الكوني نافذٌ لا محالة لا يستطيع أحدٌ ردَّه كنهايةِ الأجل كما قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [ سورة يونس /49 ]، وأما قضاء الله الشرعي فالله جعله سبحانه وتعالى وفق حرية الإنسان واختياره؛ وإنما يترتب على أمره الشرعي قضاؤُه الكوني الذي تحصل به عقوبة العاصي وإثابة الطائع؛ إذن أمرُ الله الشرعي غير نافذ حتماً في المكلفين لأن الكُفَّار والفُسَّاق عصوه ولم يمتثلوه باختيارهم مما منحهم الله من القدرة والحرية على الفعل أو الترك.. وكل مسألةٍ سأذكرها سأذكر دليلَها من كتاب الله؛ فإذا قلت في الدعاء الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر كل طارق إلا طارق يطرق بخير يا رحمن)) فلا ينصرف هذا إلا لقضاء الله الكوني الذي لا يستطيع أحد تجاوزه، ولا يحل صرف ذلك إلى قضاء الله الشرعي فقد تجاوزه الكافر والفاجر، بل أحرقوا كلام الله، ورموا به في الأماكن القذرة عليهم لعائن الله تترى؛ وإن المسلمين ليتحرَّجون غاية التحرُّج من إهانة كتب أهل الكتاب مع يقينهم بما فيها من تحريفٍ وإسقاطٍ وإضافة؛ وذلك تقديسٌ منهم لما شهد له ديننا المصدق المصحح لما بين يديه، وتقديسٌ منهم لما يُحتمل أن يكون من عند الله ولم يشهد له ديننا بصحةٍ أو كذب كتسمية بعض الأنبياء؛ فلم يُسَمِّ الله سبحانه وتعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء والسل؛ لقوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}[ سورة النساء/ 164].. فمن قال أستعيذ بالقرآن أو أستعيذ بكلمات الله في القرآن التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجر فقد تجاوز واعتدى، وادَّعى على كلام الله أمراً غير صحيح لأن الكفار تجاوزوا كلام الله واعتدوا عليه.. ولا أستبعد أن أصف بالبدعة مَن قال أعوذ بالقرآن مِن شر ما خلق أو مِن شر ما ينزل من السماء؛ لأن الله لم ينزل كلامه الذي يطيعه المطيع ويعصيه العاصي، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[ سورة يوسف/ 103]، من أجل دفع الشرور التي يدفعها بقضائه الكوني كما يدفع بها أو يمضيها على المؤمن والكافر سواء، وإنما جعل الله طاعة القرآن سبباً لدفع الشرور بقضائه الكوني كما هو عصمة للمؤمن في آخرته؛ فكلام الله القرآن وحده ليس قضاءً كونياً يُستعاذ به؛ وإنما طاعته والاعتصام بالله الذي يشمل الاعتصام بشرعه طاعةً لأوامره ونواهيه، واعتقاداً أنها على العدل والإحسان والرحمة، واعتقاداً لصحة أخباره وأنها على الصدق والعصمة، وأن إيرادها للحكمة والموعظة؛ وبهذا كان القرآن شفاءً مُسبباً لقضاء الله الكوني الذي تحصل به سعادة المؤمن في دنياه وآخرته كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }[ سورة النحل/97]؛ فلاحظ قضاء الله الكوني بقوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} بعد الخبر الحاث على طاعة الشرع، وأما قوله تعالى: { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[سورة الرعد/28] وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[سورة الأنفال/2]؛ فهذا وعدٌ كونيٌّ من الله جل جلاله بتحقيق قضاءٍ أخبر به شرعاً من الحياة الطيبة في الدنيا ومن شفاءٍ في الصدور ومن طمأنينة، وهو خبرٌ شرعيٌّ عن حقيقةٍ كونيَّةٍ يُنتجها بإذن الله الإيمان الصادق؛ فَمَن آمَنَ بالله وَجلَ قلبُه خوفاً واطمأنَّ قلبُه رجاءً لما في شرع الله مِن ترغيبٍ وترهيب، وفي قضاء الله الكوني أن الشيطانَ مُسلَّطٌ على المكلف يأمره بالفحشاء ويَعِدُه الفقرَ فجعل الله بقضائه الكوني ووعدِه الشرعي ذكر الله والأدعية الموظَّفة مضعفة للشيطان غير طاردة له بالجملة بل لا بد من ملازمة ذكر الله والأدعية الموظَّفة والمطلقة.
قال أبو عبدالرحمن: وموجز القول أن الله يُحقِّق بقضائه الشرعي قضاءً كونياً لينتفع به المؤمن، ومن ذلك القضاء تحقيق المطلوب دنيوياً، والإعانة بالصبر والرضا عند تخلف المطلوب، والتعويض المبارك عنه، وادِّخار الأجر؛ فهذه هي الحياة الطيبة؛ لأن نعيم المسلم إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن أذنب استغفر فهو في طمأنينةٍ وحياةٍ طيِّبةٍ مُدَّةَ حياته لا يعرف القلق ولا يتطرَّق له المرض النفسي ولا العادة المتفشية عند الكفرة من أنواع الغياب والعَدَمَية كالانتحار والمخدرات، ثم يجب أن يلاحظ أن شرع الله يتَّصف بأنه قضاءٌ كونيٌّ من جهة، وقضاءٌ شرعيٌّ من جهة؛ فمعنى أنه قضاءٌ كونيٌّ أن الله سبحانه وتعالى قضى قضاءً كونياً لا مردَّ له بأن يُقيم حُجَّتَه على المكلفين بشرائعَ يُنَزِّلُها ورسل يبعثهم وبراهينَ في كون الله يُحيلهم إليها بشرعه؛ فهذا القضاءُ الكونيُّ لا يملك أحدٌ رَدَّه فيُلغي إرسالَ الرسل ويمنع من نزول الشرائع؛ فهو قضاءٌ كونيٌّ نافذٌ لا مَحالة.. وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-