د.عبدالعزيز بن محمد الدمخ
تشرفت بالمشاركة في مسابقة القرآن والأذان العالمية (عطر الكلام)، التي انضم إليها أكثر من أربعين ألف مشارك، من أكثر من ثمانين دولة حول العالم، ومن فضل الله تعالى كنت ضمن المتأهلين للتصفيات النهائية والبالغ عددهم ستة وثلاثين؛ ولقد رأيت من خلال مشاركتي في فرع القرآن التميز والإبداع، ما جعل هذه المسابقة فريدة في فكرتها، فهي تعنى بترتيل القرآن وحسن الصوت به.
وفي البداية فإني أحمد الله تعالى على ما منّ به وتفضّل من نجاح هذه المسابقة (عطر الكلام) في موسمها الأول.
كما أتوجه بالشكر لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ولسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، على دعمهما اللا محدود لهذه المسابقة، كما أثلث بالشكر لمعالي المستشار تركي بن عبدالمحسن آل الشيخ عرّاب هذه المسابقة، والذي كان متابعاً لها بكامل تفاصيلها، وحضوره شخصياً للقاء المشاركين وتكريمهم.
وحول هذه المسابقة فإن لي خمس وقفات، أبوح بها في ثنايا هذه الأسطر:
1 - فضل تحسين الصوت بالقرآن.
2 - منهج الدولة في العناية بالقرآن.
3 - انفراد هذه المسابقة وتميزها.
4 - الحفاوة التي لقيها المشاركون.
5 - التوصيات.
الوقفة الأولى: فضل تحسين الصوت بالقرآن.
إن الصوت الحسن هبة من الله تعالى يمنحه الله تعالى من يشاء من عباده، فينبغي لقارئ القرآن ذي الصوت الحسن أن يقرأ القرآن متحزناً متخشعاً حتى يؤثر في القلوب، ليتحقق فيه قول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
وقد جاء الأمر بترتيل القرآن، وتحسين الصوت به، قال الله عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} (المزمل: 4)، ويبين كيفية الترتيل أنس بن مالك - رضي الله عنه - حينما سُئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مداً، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم فمدها، وذكر النووي -رحمه الله- في كتابه «التبيان في آداب حملة القرآن» قوله: أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار، وأئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ودلائل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا أذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ». متفق عليه.
وَعَنِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنهُ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِىٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ». متفق عليه.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أجْرَانِ». متفق عليه.
وكان أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- صوته حسن استمع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود»، فقال أبو موسى - رضي الله عنه-: «لو علمت أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً» متفق عليه. والتحبير: هو التزيين والتحسين، ولا شك أن الصوت الحسن يكون سبباً في التأثر بسماع القرآن.
وَعَنِ البَرَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأ فِي العِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}... فَمَا سَمِعْتُ أحَداً أحْسَنَ صَوْتاً أوْ قِرَاءَةً مِنْهُ. متفق عليه.
وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا قرأ يسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل، من خوفه من الله عز وجل، وبكائه منه، ومع ذلك كان هذا لا يؤثر في جمال صوته، وحسن تلاوته، صلوات الله وسلامه عليه.
وأحسب أن هذه المسابقة (عطر الكلام) جاءت لبث روح التنافس لقراءة كلام الله تعالى مُحبراً.
وقد سُئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - ما علاقة الترنم والنغم بأصوات القرآن الكريم؟
فأجاب - رحمه الله -:
«الرسول صلى الله عليه وسلم حرض الأمة على تحسين الصوت بالقرآن؛ لأن ذلك أنفع للأمة وأشد أثرًا في القلوب؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به ويقول: زينوا القرآن بأصواتكم لأن تزيين الصوت، وتحسين الصوت بالتلاوة يُمكّنُ دخول القرآن في القلوب، وتأثر القلوب بسماع آيات الله، بخلاف الصوت غير الحسن، فإن ذلك ينفر من سماع القرآن، ويدعو إلى الإعراض عن القارئ.
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بأبي موسى وهو يقرأ -الأشعري- فاستمع له، وأعجبه صوته -عليه الصلاة والسلام-، فلما رآه في النهار أخبره -عليه الصلاة والسلام-، فقال: «لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا» وكان يقول صلى الله عليه وسلم لما سمع صوته: لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود يعني: صوتًا حسنًا». انتهى كلامه رحمه الله.
الوقفة الثانية: منهج المملكة العربية السعودية في العناية بالقرآن.
نهجت هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية منهجاً واضحاً في خدمة كلام الله تعالى منذ نشأتها، ولذا أقامت المسابقات العالمية والمحلية حثاً للطلاب على التنافس والتسابق في حفظ كلام الله تعالى وتجويده وتفسيره، ومن تلكم المسابقات:
1 - مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية، التي مضى على نشأتها قرابة نصف قرن، وقد أولى لها ملوك هذه الدولة عناية خاصة إلى عهدنا الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله تعالى.
2 - مسابقة الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- المحلية، التي يوليها قائد هذه البلاد عناية خاصة منذ ربع قرن.
وغير ذلك من المسابقات في القطاعات العسكرية والمدنية.
وقد جاءت هذه المسابقة (عطر الكلام) التي ترعاها الهيئة العامة للترفيه، امتداداً لهذا الاهتمام، إلا أنها تميزت وانفردت بالحث على التنافس على قراءة القرآن بصوت حسن، لما لذلك من أثر كبير في المستمع.
الوقفة الثالثة: انفراد هذه المسابقة وتميزها.
ومما تميزت به هذه المسابقة بأنها كانت عالمية من حيث لجنة التقييم، وعالمية المشاركين فيها، وهذا ما جعلها محط أنظار كثير من دول العالم ومحل متابعة منها، بل تلقى بعض الفائزين التهنئة من زعماء بلدانهم، كما حظي بعض الفائزين بتغطيات إخبارية لقنوات عالمية، ومما يجدر الإشارة إليه أنه بلغ عدد الدول المشاركة أكثر من ثمانين دولة، وفي التصفيات النهائية كان توزع المشاركين جغرافياً حاضراً من: (المملكة العربية السعودية - مملكة البحرين - المملكة المتحدة - ماليزيا - إندونيسيا - ماليزيا - كندا - تركيا - المغرب - مصر) وغيرها من الدول.
كما تميزت المسابقة بأنها أعلى مكافأة على مستوى العالم حصل عليها المشاركون، حيث لم يسبق في تاريخ المسابقات النظيرة منح مثل هذه المكافآت، التي بلغت خمسة ملايين ريال للفائز الأول، وقد تجاوز مجموع الجوائز اثني عشر مليون ريال.
الوقفة الرابعة: الحفاوة
التي لقيها المشاركون.
حظي المشاركون في هذه المسابقة ببالغ الإكرام وحسن الضيافة والاستقبال طوال فترة إقامتهم في المملكة العربية السعودية، كما قامت الهيئة العامة للترفيه - على نفقتها مشكورة - بتمكين المشاركين من أداء العمرة وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارة أبرز المعالم فيها: مسجد قباء - ومسجد القبلتين - معرض المصحف الشريف - وغير ذلك.
الوقفة الخامسة: التوصيات
من خلال مشاركتي وما لمسته من اهتمام معالي المستشار تركي آل الشيخ حيث وعد معاليه بانعقاد موسم ثان لهذه المسابقة، لذا فإني أوصي بمقترحين لم يسبق لأي جهة تبنيها - فيما أعلم-:
الأول: أن يضاف لفروع مسابقة القرآن، فرع القراءة بالحدر، بحيث يراعى فيها جمال الصوت وسرعة القراءة مع مراعاة أحكام التجويد التي تناسبها؛ وكما هو معلوم أن قراءة القرآن إما أن تكون حدراً أو تدويراً أو تحقيقاً، والذي يظهر أن المسابقة ركزت على جانب القراءة بالتحقيق - وهو الذي تسير عليه كثير من المسابقات - وهذا أمر يحمد لها، ولكن سعياً في التميز من جهة، ومن جهة أخرى زيادة شرائح المشاركين لعموم الانتفاع بهذه الطريقة لكافة مساجد بلدان المسلمين، حيث إن القراءة بهذه الطريقة -أعني الحدر - هي التي يقرأ بها غالب أئمة الحرمين وعامة المساجد والحاجة داعية إلى هذه الطريقة من القراءة طوال العام عموماً، وفي شهر رمضان المبارك خصوصاً.
الثاني: نظراً لما حققته مسابقة عطر الكلام من نجاح في موسمها الأول وإمكانية التواصل مع المحكمين والمشاركين من كافة دول العالم، فإني اقترح أن تنشأ الهيئة العامة للترفيه مركزاً لصناعة المهرة «المركز العالمي لصناعة المهرة»، يعنى بالتدريب والتعليم لجمال الصوت بقراءة القرآن وتحسينه، عملاً بما جاء في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ...». متفق عليه.
ويكون دور المركز مقتصراً على الأداء وليس على الحفظ، -وبالطبع هو منفصل عن المسابقة- ولا شك أن هذا العمل من أعظم القربات إلى الله تعالى، وسيسهم في إسماع القرآن لكافة المسلمين على أحسن وجه، وإني آمل من معالي المستشار تركي آل الشيخ وهو صاحب المبادرات إن رأى مناسبة الفكرة أن يكون قائدها ومؤسسها يجري أجرها ذخراً له عند الله تعالى.
** **
- الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء