كان علم الاقتصاد، في منتصف القرن الماضي ولبرهة من الزمن، يبدو ذلك العلم الواسع صعب المرتقى الذي خلت مادته من أي رونق جذاب، وقد قدم نتاجاً تعوزه البشرية جمعاء. ذلك النتاج يتمثل في طريقة تحقيق الازدهار ومن ثم أساليب الحفاظ عليه. وقد ابتدع أصحاب السلطة في البلاد ومستشاروهم من علماء الاقتصاد أساليب كثيرة لتخليص الاقتصاد الوطني والعالمي من خطر الكارثة والمجازفة. فكانت ذات صبغة عقلانية تنبئ بواقع المستقبل وتحمل طابع التحليل الإحصائي العميق بحيث صارت الحكومات تعتقد أن كل ما ينقصها فقط هو مجرد أن تجمع بين هذه الأساليب جنباً إلى جنب مع الكادر الخبير والمال المطلوب حتى تستطيع أن تجعل الحياة الاقتصادية تلبي رغباتها.
وعلى أساس من هذا الاعتقاد الخاطئ فقد ظن الرئيسان كندي وجونسون ومستشاروهما، وحتى معظم الشعب الأمريكي، أن مستوى الإنتاج العالمي والتفوق الاقتصادي لبلادهم مضمون حتى المستقبل البعيد، وأن التدابير الضرائبية المستخدمة لتحقيق استقرار اقتصادي كفيلة بأن تقضي حتى على التقلبات قصيرة الأمد التي قد تحدث في الأسعار.
وفي بريطانيا كانوا يقومون، أو كان يظن بأنهم يقومون، ببناء دولة الرفاهية المزدهرة والمتقدمة من خلال العمل ومن خلال مستوى معيشة متواضع ودائم التحسن يعم جميع الأفراد، وهم في ذلك يقتفون إلى حد ما أثر الدولة الاسكندنافية. وأما المجموعة الأوروبية الاقتصادية فهي إذ تتبنى لنفسها منهج الاقتصاد الأمريكي المتكامل باستمرار كانت تقوم بمهامها على أفضل ما يرام لصالح الدول الأعضاء الأصليين. وكان هناك ستة أو سبعة من بلدان من أمريكا الجنوبية تسير في خطواتها الأولى نحو تبني هذا الاقتصاد كنظام يحتذى في قارتهم.
وأما في البلدان المتخلفة فكان الناس يتطلعون إلى خطط تنمية من وضع مختصين لتنضم لهم عملية الازدهار والتقدم. وفي الوقت نفسه كانت تطلعاتهم هذه موضع نظر الدول التي تمول خطط التنمية عن طريق القروض والمنح.
وقد اختلفت الطرق المتبعة لتحقيق هذا الازدهار في الأماكن التي خلت منه، والحفاظ عليه في الأماكن التي نالت منه حظاً، وذلك حسب الناحية الأيديولوجية، ولكن ليس بذلك القدر الذي قد يتصوره المرء. فمثلاً، عندما كانت الحكومتان الأمريكية والسوفييتية تتنافسان على كسب الحلفاء من الدول الفقيرة، من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية، لم تكن منافستهم هذه تنطوي على مفاهيم مختلفة في المساعدة؛ بل على النقيض من ذلك كلتاهما كانت تتنافس على تقديم الشيء نفسه، من سدود مائية وشبكات طرق ومعامل أسمدة وأنظمة ري.
من الناحية النظرية، كل شيء كان على أساس كبير من المنطق، وأما في الواقع فقلما سارت الأمور حسب ما رسم لها. فكما نعلم جميعاً فإن البلدان ذات الاقتصاد السليم تستطيع دائماً أن تمد يد العون لإنعاش التجارة في البلدان التي تقوض اقتصادها بفعل المجاعة أو الأوبئة أو الزلازل ومد المحيطات والفيضانات والنيران. وهذه الحال تتمثل تماماً بخطة مارشال التي قدمتها أمريكا.
وقصارى القول إن الاقتصاديين، في طول البلاد وعرضها، كانوا يرسمون ويعدلون منحنياتهم الفليبسية الخاصة؛ وحتى في مدارس الاقتصاد في العالم الغربي كان الطلاب يعلمون كيف يرسمون هذه المنحنيات ويستخدمونها. أول هذه المنحنيات التي رسمت على أساس البيانات الأمريكية تم التخطيط له عام 1960 على يد اقتصاديين اثنين أحدهما بول سامويلسون وهو أحد كبار المؤلفين الأمريكيين في علم الاقتصاد، والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد.
الكلام عن الأعطاب البنيوية في الاقتصاد أو النسب العالية المستمرة للبطالة لا يزيد عن أن يرجع بنا بطريق مختلفة إلى الحديث عن ألغاز التأثيرات المتباينة لخطة مارشال في مد يد العون إلى اقتصاديات مختلفة ثم الفشل الذريع الذي لحق بكثير من خطط التنمية المدروسة والممولة بشكل فائق. نحن لا نعرف كيف نحفز عامل التنمية في الاقتصاديات المختلفة؛ ولا نعرف أيضاً كيف نحول دون تردي الاقتصاديات المتطورة نفسها إلى حالة من التخلف: جانبان للغز نفسه.
الآن وقد عركنا عامل الزمن والأحداث، أصبحنا نعرف شيئاً واحداً: من الحمق أن نفترض أن علم الاقتصاد الشمولي على وضعه المعروف اليوم بوسعه أن يرشدنا لما فيه منفعتنا إنه حطام لا خير فيه. لقد انقضت قرون عديدة من التفكير الجاد والحثيث في قضية الملاحقة القوية بين العرض والطلب، ولم تفدنا علماً بشيء يذكر عن نمو الثروات وتدهورها. إذاً فيتحتم علينا أن نبحث في ثنايا سبل أخرى من الملاحقة والتفكير أكثر واقعية وأرجى إثماراً مما قد جربناه من قبل. وأما البحث لاختيار أحد المذاهب الاقتصادية القائمة فهو عقيم لا فائدة ترجى منه. إننا نعيش واقعنا نحن؛ وليس ثمة ما يفرضه علينا غيرنا.