محمد سليمان العنقري
قد تكون الأزمات الكاشف الأكبر للثغرات والقصور بالخطط أو بالاستعدادات أو بالأبحاث والدراسات التي تمنع حدوثها أو تحد من أضرارها لكن هناك أيضاً بعض الحلول التي تتم بها معالجة الأزمات هي مفتاح لأزمة قادمة، فهي مجرد مسكنات لا تعالج الخلل الأساسي بقدر ما تخفف من تبعاته، إضافة إلى المبالغات بالتوجه لنشاطات باندفاع أسرع من المناسب لكل فترة زمنية يقابله التخلي عن أنشطة تعطي نفس الخدمة أو المنتج المطلوب بنسب تحقق الاستقرار والدعم للاقتصاد والأعمال عموماً، كما يضاف لكل ذلك توقف تطوير دور المنظمات والمؤسسات الدولية لتكون صمام أمان للاستقرار والسلم الدوليين، فتجدها عند وقوع أي أزمة دولية سياسية كانت أو اقتصادية هي أضعف من يحاول أن يلعب دوراً بحلها كواقع الأمم المتحدة ومجلس الأمن في كثير من الصراعات الدولية التي لم تستطيعا فيها أن يوجدا الحلول لها.
فأزمات القرن الحالي عديدة وكشف الحساب لنتائج مواجهتها دولياً تعطي الدلالات على مكمن الخلل بمعالجتها من عدم وجوده، فلو نظرنا للأزمة المالية العالمية رغم التحذيرات التي أطلقت قبل وقوعها بأعوام قليلة من مؤسسات مالية ومستثمرين وأكاديميين في أمريكا إلا أنها انفجرت بنهاية المطاف على مرأى من عيون البنك الفيدرالي الأمريكي أحد أهم وأكبر وأعرق وأقوى البنوك المركزية بالعالم ثم جاءت المعالجات بضخ الأموال وخفض الفائدة فأسست لموجة فقاعة أصول بأسواق المال والسلع صححت نفسها قليلا في عام 2015 إلى 2017 وبعدها عادة لتكمل موجة الارتفاعات لأن الخلل في خفض قيمة الدولار لفترات زمنية طويلة وهو عملة الاحتياط الأولى في العالم، فالمال الرخيص أغرى المضاربين وأعطاهم المساحة الأكبر للتأثير بحركة أسعار الأصول على حساب تشجيع الاستثمار وزيادة الطاقة الاستيعابية بالاقتصادات الكبرى فأمريكا تستورد من الصين أكثر من 600 مليار دولار سنوياً وأغلبها سلع انتقل جل إنتاجها من أمريكا للصين ومن منتجات لشركات أمريكية أو أوروبية أصبحت مصانعها بالصين توفر جل إنتاجها وحاول الرئيس ترمب أن يعيد لدولته جزءاً كبيراً من خطوط إنتاج تلك الشركات وكذلك طلب من الشركات الأجنبية التي لديها سوق كبيرة لمنتجاتها في أمريكا أن تفتتح خطوط إنتاج لها في بلاده حتى يعالج هذا الخلل لكنه اصطدم بجائحة كورونا في آخر فترة حكمه التي كان لها دور في خسارته للانتخابات ولفرصة ولاية ثانية مما أثر في مسار هذه الخطة وفي نهاية المطاف معالجة أمريكا للأزمة المالية العالمية التي انطلقت منها عام 2008 انتهت بمضاعفة الدين السيادي لما يقارب 100 في المائة من ناتجها الإجمالي قبل عام 2020 وهو الذي أصبح منعطفاً مفصلياً لتاريخ البشرية حيث شهد تفشي فيروس كورونا الذي تسبب في إقفال كبير للاقتصاد العالمي كما تضاعفت ميزانية البنك الفيدرالي الأمريكي عدة مرات وادمنت الأسواق على سياسات مرنة وتيسير كمي خدم المضاربات وأسس لتضخم مزمن في العالم وتم اتباع نهج مشابه بمواجهة أزمة كورونا فزاد الدين السيادي وارتفع التضخم من وراء هذه السياسات يضاف لها تعطل سلاسل الامداد الذي أحد أسبابه ليس فقط الإقفالات والإجراءات الاحترازية بل أيضا بعض سياسات التحفيز لحكومة الرئيس بايدن التي قدمت أموالاً لأسر فضل أربابها الاستفادة من هذا الدعم وعدم العودة للأعمال التي كانوا يؤدونها بالمعامل والوانئ وغيرها مما تسبب أيضا بتأخير الإنتاج وكذلك الشحن والتفريغ وتعطل السفن لأسابيع في الموانئ بسبب نقص العمالة فالمحللون في الأسواق الأمريكية يعتقدون أن هذه السياسات هدفها سياسي يخدم الانتخابات القادمة بالكونجرس لصالح الديمقراطيين أكثر منها كفائدة لدعم الاقتصاد وهو ما يرورنه يتنافى مع المصالح العليا لحساب مصالح ضيقة.
والأمر نفسه ينطبق بوجه آخر على سياسات دول صناعية كبرى في أوروبا وشرق أسيا أيضاً تسببت بنقص بالعمالة وما زالت تعاني من تراجع إنتاج معاملها فكما أبقت عمال المرافق الأساسية في أعمالهم كان يمكن بعد أن تم إنتاج اللقاحات وكذلك تخطي مرحلة الجهل بالفيروس ألا تعود بعض هذه الدول المهمة لذات السياسات بالإقفالات وأن تطبق ذات الإجراءات على من استمروا في أعمالهم ببداية الجائحة حتى لا تتعطل الأعمال فهل تكشفت في هذه الأزمات عدم الاستعداد لمعالجة كيفية منع تعطل الإنتاج أو تأثره بنسب كبيرة فقد كان مقبولا مثل هذه الإقفالات في عام الجائحة الأول نظراً لعدم معرفة تفاصيل الفيروس لكن بعد مرور عامين وإنتاج عشرات الأنواع من اللقاحات وتلقي نسب عالية من البشر لها أصبح التعامل بذات القيود السابقة غير منطقي وإلا ما فائدة كل ما تم من جهد وعمل للحد من تفشي الفيروس ومما يظهر ايضاً خللاً كبيراً في سياسات الدول التي تمتلك إمكانات زراعية هائلة أنها عطلت هذه الإمكانات واعتمدت على استيراد سلع أساسية كالقمح والحبوب من دول محددة أهمها روسيا وأوكرانيا التي تدور حرب بينهما مما أدى لبداية نقص في إمداد هذه السلع الأساسية خصوصاً في دول ذات إمكانات زراعية هائلة في قارة إفريقيا وهو ما يهدد أمنها الغذائي فهذه الأزمة كشفت مدى التأخر بخطط الأمن الغذائي لهذه الدول وأنها توجهت باقتصادها لأنشطة لا تحقق لها أمناً اقتصادياً واستقراراً اجتماعياً حتى في قارة أوروبا التي تعد من مناطق العالم المتقدم لديهم خلل في أمن الطاقة من خلال عدم التوازن بمزيجها الذي تبنوا توزيعه بالتوجه السريع للطاقة المتجددة التي لا تعطي استقراراً بالإمدادات بسبب تأثرها بعوامل المناخ كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح على حساب خفض الاستثمار بالطاقة التقليدية النفط والغاز تحديدا ولذلك مع فرض عقوبات على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا وجدوا أنفسهم أمام خيارات معقدة إذا أوقفوا الاعتماد على الغاز الروسي والنفط اللذين يمثل استيرادهما من روسيا الجزء الأكبر من استهلاكهم وبذلك فهم أمام إما وقف لاستيرادهما من موسكو حتى يتم تجفيف مصادر تمويل حربها على كييف ولكن سيتم معه ارتفاع أسعار الطاقة وتهديد اقتصاد تلك الدول أو إبقاء الوضع كما هو لكن سيكونون هم من يمول هذه الحرب رغم عقوباتهم على روسيا ودعمهم اللا محدود لأوكرانيا وهو ما يمثل تناقضاً وارتباكاً واضحاً بالتعامل مع اأزمة وضعف القدرة على وقف هذه الحرب رغم أن الخاسر الأكبر مستقبلاً هي روسيا عندما يتمكنون من تقليل اعتمادهم عليها بإمدادات الطاقة لكن على المدى القصير التحديات كبيرة على أمن الطاقة لديهم وعلى صعيد آخر فإن سوق العملات المشفرة يبدو عصياً على التحكم به فرغم كل مخاطر التعامل بالعملات المشفرة إلا أن حجم سوقها قارب تريليوني دولار فسوقها غير منظم وليس له مرجعية ولا يوجد أي ثقة بأن ما تشتريه من هذه العملات هناك من يضمن لك بقاءها أو أنها ليست وهماً ومع ذلك لم تظهر معالجات تكشف من خلفها وتنظم تعاملاتها وتحفظ الحقوق للمتعاملين بها فهل تنتظر الدول الكبرى التي لديها أكبر المتعاملين بهذه العملات وكذلك المنصات التي يتم التعامل من خلالها بسوقها وقوع الكارثة ليتحركوا.
الأزمات والتحديات التي وقعت سابقاً ونعيش غيرها حالياً كشفت عن خلل كبير مصاب به جسد العالم وأن كثيراً من المعالجات ما هي إلا مسكنات وتؤسس لأزمات أكبر فملفات سياسية واقتصادية عديدة تركت بلا حل أو بمحاولات خجولة حتى انفجرت وأصبحت تكلفة حلها باهظة وكذلك انخفاض الإنفاق على الأبحاث في مجالات الصحة والبيئة قباساً بما دفع على قطاعات ليست بأكثر أهمية منها مما أدى لوقوع أسوأ أزمة صحية في العالم انتقلت تداعياتها للاقتصاد العالمي وتهدد الاستقرار الدولي فنحن نعيش في عالم بقدر ما فيه من تقدم في علوم التقنية والعديد من الصناعات إلا أنه أيضاً يعاني خللاً واسعاً في مجالات حساسة وكذلك ضعفاً بدور منظمات وهيئات دولية يفترض أنها صمام الأمان للحفاظ على السلم الدولي إضافة لضعف المعالجات الجذرية للأزمات والاعتماد على المسكنات فها هي أمريكا يعاني فيها البنك الفيدرالي من عدم اليقين بأن معالجته للتضخم المرتفع لن تتسبب في وقوع اقتصادها بركود قد يكون الأسوأ لو حدث منذ عقود طويلة.