د. خالد عبدالله الخميس
في شهر رمضان من عام 1406 تخرجت من كلية العلوم بكالوريوس بيولوجي (علم حيوان) وبعد ان حصلت على وثيقة التخرج قدمتها لعدة قطاعات حكومية للحصول على وظيفة، وكل القطاعات التي قدمت إليها أوراقي قبلت أوراقي وعرضت علي وظيفة رغم أن معدلي كان جيداً جداً. وأذكر أن من القطاعات الحكومية التي قُبلت فيها: باحث في مدينة الملك عبدالعزيز، أخصائي مختبر في هيئة المواصفات والمقاييس، معيد بقسم الفيزيولوجي (كلية الطب)، معيد بقسم علم الحيوان (كلية العلوم) ومعيد بقسم علم النفس (كلية التربية) بجامعة الملك سعود.
لم يكن الأمر متعلقاً بشهاداتي أو تخصصي وإنما كانت أبواب القطاعات الحكومية والأهلية فاتحة مصراعيها أمام الخريجين لمعظم التخصصات في تلك السنوات، ولذا كان الدارسون في الجامعة مرتاحين ومندمجين في دراستهم ولم يكن يوم التخرج يعني الشيء الكثير، كونهم لا يحملون همّ الوظيفة ولا هم التعيين، أضف لذلك أن الدارس مرتاح مادياً إذ إن المكافأة كانت «ألف ريال» وفيها خير كثير ولو كنت متزوجاً تضاعفت للألفي ريال، وكانت تلك المكافأة تستمر معك حتى ولو زدت عن المدة الاعتيادية لسنوات التخرج.
قارنت هذا بحال طلاب الجامعات اليوم الذين تضاعفوا عشرات الاضعاف، الذين يعيشون توتراً يلاحقهم أينما كانوا، فيعيشون التوتر أثناء تواجدهم داخل القاعات الدراسية ويعيشونه خارج القاعات ويعيشونه بشكل مضاعف إذا تخرجوا. إن حال بعض طلاب اليوم لا يمكن تشبيهه إلا بحال «المصروف» فلا هو ممسك بتركيز عقله ولا هو مستمتع بما يدرسه، ولا هو مركز في تخصصه ولا هو مهدئ باله ولا هو مشغله بما ينفع.
الحمد لله درسنا بهدوء، وتخرجنا بهدوء، وقدمنا على الوظيفة بهدوء، وحصلنا على الوظيفة بهدوء، دون أن ندخل في قوائم الانتظار أو نلجأ «لمعمعات» الوسائط والفزعات. بعد قبولي في تلك الوظائف اخترت واحدة. وهنا لا أريد أن أثير حفيظة الخريجين و»أقهرهم أكثر مما هم مقهورين» لأقول لهم إننا كنا كخرجين «نتدلل» ونقدم الاعتذار للجهات التي تقبلنا وليس العكس، فأصحاب الوظائف الآن يلحقون كل متقدم للوظيفة بالاعتذارات بدلاً من الترحاب وأحياناً لا يأخذون ملفه ولو مجاملةً «و يا عين لا تبكين».
اخترت المجال الذي إليه ميولي أكثر، وكان خياري هو الالتحاق بالإعادة بقسم علم النفس، وكان سبب اختياري لعلم النفس جاء من مادة حرة اسمها علم النفس الفيزيولوجي (حبذا لو عاد نظام المادة الحرة، لأنه يتيح لك وأنت في أي كلية أن تدرس أي مادة لك ميل لها مهما كان مسمى الكلية التي تدرسها)، وأردت أن أربط بما تشبعت منه في علم الفيزيولوجي بعلم النفس، إذ إن علم النفس الفيزيولوجي معني بدراسة وتفسير السلوك من الجانب البيولوجي العضوي. وكان وقتها الدكتور مصطفى بصل (سوري من جامعة دمشق) هو من يدرس المادة، وكان من خريجي جامعة فرنسية، وكان بالإضافة إلى سعة علمه وغزارة خبرته كان يتمتع بأسلوب فريد في التدريس، إذ مُنح فصاحة وبلاغة عربية يعجز كثير من الخطباء بالإتيان بها، فكنا نستمتع بأسلوب محاضراته وفصاحته بنفس القدر الذي نستمتع فيه بعلمه وخبرته.
بعدما تعينت في القسم وتسلمت مكتبي لمحني زميلي في القسم أ.خالد العايد (وهو الآن من أبرز الأخصائيين النفسين العرب والآن هو اخصائي نفسي اكلينيكي أول في هيئة التخصصات الصحية) وأنا أقرأ في كتاب يهتم بالتأصيل الإسلامي لعلم النفس، وقال لي: كان يجدر بك أن تؤسس لنفسك قاعدة معلوماتية عن علم النفس قبل أن تأتي على كتب النقد. وكان دافعي من قراءة ذلك الكتاب هو تأثري بمقولة ضيقة كانت سائدة عند عامة الناس (عام 1406) وهي أن علم النفس من العلوم التي تتعارض مع قيمنا وأن نظرياته أسسها فرويد وهي تدعو للإباحية والإلحاد. بالفعل مشيت خلف نصيحة زميلي خالد وانغمست في قراءة كتب علم النفس المختصة وحرصت على حضور المحاضرات، وكان أول كتاب يقع بين يدي لحسن الحظ هو كتاب مترجم للمؤلفة لندا دافيدوف معنون بـ المدخل لعلم النفس، فانكببت عليه قراءة وتمحيصاً وأمتعني الكتاب وخلّصني من الوهم بأن علم النفس ما هو إلا نظريات فلسفية تأملية إلى أن علم النفس هو علم تجريبي بامتياز لا يختلف في منهجيته عن دراسة العلوم الصرفة كعلم الكيمياء وعلم الفيزياء، كما خلّصني الكتاب من الوهم بأن علم النفس ما هو إلا مجموعة من الاضطرابات النفسية إلى أن علم النفس هو عوالم عدة من العلوم فهو أكثر التخصصات سعة وأكثرها تطبيقاً كونه له أذرع يتداخل عبرها مع عدة تخصصات كالصحة والطب والسياسة والجريمة والإعلام والقضاء والاستخبارات والتعليم والبرمجة، وبالفعل خرجت مع القمقم والسبات العقلي إلى السياحة مع علم النفس بعناقيده الحلوة التي أشبعت جوعي وأروت ظمئي.
الحمد لله تغيرت رؤيتي لعلم النفس بشكل سريع في تلك السنة، وذكرتني رؤيتي المتصلبة برؤية من هم الآن في عمري ذلك الوقت ممن هم حديثو التخرج من علم النفس، الذين عادة ما يميلون للتصلب لاتجاه نفسي معين أو للتعصب لمدرسة نفسية أو استيراد ردود على مذهب نفسي آخر، دون أن يعمقوا فكرهم ومعرفتهم بهذا الاتجاه أو ذلك، ولهؤلاء أكرر عليهم ما سبق وأن قاله زميلي الاستاذ خالد العايد: إن التعمق في المعرفة يأتي قبل النقد. على العموم هذا التعصب أظنه واحداً من خصائص مرحلية عمرية والوقت كفيل بصقله وتهذيبه.
أذكر أيضاً أن الدكتور عبدالله النافع هو رئيس القسم وقتها (وقد شغل منصب وكيل جامعة الملك سعود)، وقد أحسن د.عبدالله بتزويد القسم بأجهزة فيزيولوجية حديثة وتعاقد مع فني امريكي لتشغيل تلك الأجهزة وكان اسمه مايكل بيودك، وبالفعل قمنا وقتها بتشريح أدمغة الحيوانات ودراسة تأثير التلف على مناطق دماغية وتأثير التنبيهات الكهربائية على سلوكيات الحيوان، ونحن وقتها في أول سنة إعادة، ولقد أفدنا من تلك التدريبات الشيء الكثير وكان لها أكبر الأثر في دراستنا العليا، وزاملني في ذلك التدريب كل من د.سليمان الجمعة ود.محمد جعفر ثابت.
خلال تلك السنة قمت بالمساعدة في تدريس الجزء العملي لمادة المدخل لعلم النفس ومادة علم النفس الفيزيولوجي، وكانت تجربة جديدة أن تتحول من طالب تسمع إلى معلم يُسمع لك، وتخلل تلك السنة أيضاً دورتان لا تُنسيان، الدورة الأولى هي دورة في اللغة الإنجليزية للمعيدين قدمتها كلية الآداب، كان من فوائدها غير المباشرة أن جعلتنا كمعيدين في جميع كليات جامعة الملك سعود أن نتعارف ونؤكد تعارفنا عندما التقينا في الخارج، والدورة الثانية هي ما وسعت حلقة التعارف إلى تعارف المعيدين بالجامعات السعودية وهي دورة المبتعثين وكانت تلك الدورة تهدف لتأهيل المبتعث من جميع النواحي ويلقي الدورة عدد من المشايخ والمسؤولين والاساتذة أصحاب الخبرة في السفر للخارج والتعامل مع الجامعات، ولقد أفدت من تلك المحاضرات إفادة كبيرة خصوصاً وأني وقتها لم أذهب للخارج ولم أزر حتى دول الخليج، ولقد تخلل تلك المحاضرات بعض المداخلات الجريئة التي كانت نواة للبدء في صقل فكر المبتعث واختبار اتجاهاته وأفكاره.
كل تلك الأحداث والمنعطفات حدثت لي خلال سنة واحدة «سنة أولى تخرج»، فمن كوني طالباً إلى كوني خريجاً، إلى كوني معيداً إلى كوني متدرباً على تقنيات وأجهزة إلى كوني مدرباً للطلاب إلى كوني حاضراً لدورات إلى كوني مختبراً لاتجاهاتي وأفكاري إلى كوني مؤهلاً للابتعاث، نعم إنها أحداث كثيرة لكن مدتها لم تتجاوز السنة.
كانت نهاية «سنة أولى تخرج» عندما جاءني قبول من جامعة لندن وابتعثت لبريطانيا لدراسة اللغة والدكتوراه، وكان وقتها الابتعاث يشترط البقاء سنة كاملة في القسم كمعيد ولا يكتفي لقرار ابتعاثك حصولك على قبول اللغة بل لا بد أن ترفق قبول فعلي لدراسة الماجستير أو الدكتوراه من جامعات عالمية محددة.
كانت سنة لا تنسى أحببت أن أشرككم ذكرياتها.