عبده الأسمري
تردني كمستشار نفسي وسلوكي عشرات الحالات التي تعاني من «اكتئاب» يتباين ما بين الأولي والمزمن والمتوسط والحاد.. وأخرى تقبع في «هاوية» الوساوس التي يخلفها ذلك القلق الذي يستعمر النفس ويقيد الروح ونوع أخير يتأرجح بين التحسن والانتكاس..
يقضي العديد من المتعرضين للمرض النفسي أو القابلين للارتماء في دوائره أو الناكصين للعودة إلى أعماقه بعد تشافيهم أوقاتاً في «ثورة» داخلية، حيث يقتات «التفكير» السلبي على التفاصيل الصغيرة ليحولها إلى «عناوين» عريضة تستدعي التحليل وتقتضي التأويل فيزداد معدل الحيرة ويتشوَّه فضاء السريرة.. وتتشكَّل أمام الإنسان «متاهات» و»مدارات» تجعله مهيأً للضياع وقابلاً للتوهان..
تتعدَّد اتجاهات التداوي في الرقية الشرعية والعلاج الطبي بالعقاقير والعلاج السلوكي بالجلسات الإرشادية.. ولكن هنالك علاج «غائب» وشفاء «مغيّب» يغفل عنه الكثير ألا وهو «العلاج الذاتي».. النابع من قوة النفس وقدرة الروح وطمأنينة القلب وكفاءة العقل..
مع الأسف الشديد فإن أغلب الاستشارات السلوكية والنفسية تركِّز على «تمارين» و»إرشادات» تبقى في حيز «صعب» إذا لم يتم استغلال قدرات النفس وتوظيفها في العلاج إضافة إلى ربط المريض أو المراجع بمكامن القدرات الداخلية لديه والتي تشكِّل معين بذخ لتوفير المقاومة للأعراض الناتجة عن المرض ومنبعاً غنياً لتأمين المثابرة أمام تجاوز العقبات المتولدة من التعب..
هنالك جوانب خفيَّة في داخل الإنسان يجب أن يتم استغلالها وفق كفاءة علاجية لتوفير مشاهد علاج ذاتي يسهم في نقل المريض من دوائر «المرض» عبر بصائر «التفكّر» وصولاً إلى مصائر «الشفاء»..
لدى النفس قدرات كامنة تتمثَّل في «كنوز» ثمينة يستطيع الإنسان من خلالها أن يواجه ظروف الحياة وأن يتغلب على عوائق العيش وأن يسيطر على هجمات المشكلات وأن يتجاوز موجات الآلام.. لذا يجب اكتشافها من قبل الشخصية ذاتها وعلى المعالج الحصيف أن يوجه المريض إلى استخراج هذه الجواهر النفسية النفيسة لينتقل من الألم إلى الأمل حتى يجني ثمار التشافي أو نيل عطايا الارتياح..
أتعجب من أطباء نفسيين يصرفون للمرضى وصفات عقاقير دون البحث عن قدرات النفس أو الاستعانة بمعالجين نفسيين متخصصين في علم النفس العيادي والسلوكي والاجتماعي لعمل جلسات إرشادية أجزم أنها تمثِّل الجزء الأكبر من العلاج ولكن المشكلة تبقى في أن معظم العيادات النفسية لدينا تعتمد على طبيب نفسي كل همته «عقار» طبي دون النظر إلى «تفاصيل « أخرى في نفس الإنسان ودراسة مستفيضة لجوانب قد تكون هي الإضاءات الآمنة التي يستطيع من خلالها المريض رؤية «الشفاء» واكتشاف «الخلل»..
قد يخفي على المعالجين النفسيين أمرٌ مهمٌ جداً وأراه «جوهراً» نفيساً في البرامج العلاجية وهو أن المريض إذا أخذ وصفة «العلاج» فإنه سيبدأ قلقاً من نوع آخر بشأن الأعراض المصاحبة وطول مدة الشفاء وكيف يهيئ نفسه لتجاوز هذه المرحلة من خلال تعريف المريض بقوته الداخلية واستغلالها في مواجهة القادم وتأًصيل مفهوم أنه «شخص طبيعي» ولكنه يمر بأزمة «مؤقتة» يتعرَّض لها وقد يواجهها أي إنسان وسيتجاوزها وسيصل إلى العافية التامة والشفاء الكامل.
من الأمور المهمة جداً أن تعي الجهات الوظيفية الحكومية والخاصة ضرورة أن يكون لديها متخصص في «علم النفس»؛ لأن الكثير قد يتركون أعمالهم وآخرين وقعوا ضحية «المخدرات» ونوع ظل تحت وطأة ظروف معينة لذا فإن الشخص المتخصص يعين الموظف أو الموظفة على استخراج قوى الداخل وتفهم وضعه حتى يحافظ على وظيفته التي يعد «فقدها» المعول الرئيس لانتكاس حالة المريض أو تدهور أوضاعه.
وهنالك أمر مهم يتعلَّق بأن يكون هنالك تفهم من الأسرة لوضع الشخص المريض أو «المراجع» إن صح التعبير وامتثل التقدير.. لأن هنالك أسباباً قد تكون من الأسرة ذاتها ومن المحيطين بالمريض لذا يجب أن يكون لدى الحالة رؤية كاملة يكتشفها المعالج بكفاءته وقدرته حتى يمنع العوائق الجانبية التي قد تؤدي إلى توقف العلاج أو ارتفاع مستوى المرض.
هنالك مناعة نفسية متوفرة لدى كل إنسان ولكنها غائبة في برامج العلاج وحتى في سبل التثقيف الصحي النفسي أو الاجتماعي يجب أن يتم رفع مستوياتها للمريض أو المراجع أو حتى الشخص السليم منعاً لأي عوارض محتملة، فالدنيا مكتظة بالفجائيات والمواقف والأحداث والتداعيات.
اليقين بقوى الذات أساسها التوكل على الله ثم الاعتماد على النفس وليتأمل كل إنسان قوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، فهي كفيلة برفع «الوعي» وارتقاء «الفكر» بالدخول إلى الأعماق والاتجاه إلى الآفاق من منطلقات التفكّر والتبصّر والتدبر.