أحمد المغلوث
لأول مرة أشعر أن جناحي النحيلين لا يقويان على حملي، فلقد طرت من داخل قيصرية المبرز، حيث كان «عشنا الكبير» الذي بناه والدي -رحمه الله - من بقايا الليف ومن مخلفات مراحل التمر من سوق «الجلعه» جنوب القيصرية لقد طرت مسافة طويلة واحتاج بالتالي إلى راحة لألتقط فيها أنفاسي لأشرب قليلاً من ماء «ثبارة» البساتين المحيطة بعين الحارة فكم أحب هذا الماء الذي يتميز ببرودته وتشبعه برائحة أوراق الورد أو النعناع أو الليمون. خلال طيراني استمتعت وأنا أشاهد جامع الأمير فيصل بن تركي من أقدم الجوامع في المدينة، وكذلك بيوت المدينة المتلاصقة في عناق حميمي وبواباتها وطرقها الضيِّقة وأسوارها من أعلى هاأنذا أتجاوز أسوار المدينة منطلقًا في اتجاه بساتين عين الحارة واتجه إلى غابات النخيل يمين العين وغربها، حيث يقع «عش» ابن عمي البلبل الصداح كما يعرف بيننا لتغريده الجميل وتميز هذا العش كونه من عمل والدته زوجة عمي العصفورة الرشيقة، بل إنها استطاعت أن تجعل أرضيته ناعمة ووثيرة، حيث فرشتها ببعض ما تطاير من قطن بعد «ندف» مساند ودواشق مجلس البستان. كانت العين لا تبعد إلا أمتار قليلة وفي الحقيقة لم تكن عين ماء، بل كانت أشبه ما تكون بالبحيرة المترامية الضفاف. وهذا وثَّقته الصور القديمة أو اللوحات التي رسمت من وحي العين. تعودت بين فترة وأخرى أن أخطف جانحيَّ وأحضر إلى هنا، حيث أستمتع بقضاء أوقات طيبة بعيدًا عن «نبلات» الأولاد الأشقياء الذي كانوا وراء موت والدي، وكم يشجيني كذلك سماع صوت «السواني» وهي تسحب المياه والفلاح بو ناصر يردِّد بعض ما يحفظ من أغان أو أهازيج شعبية محببة طوال ساعات عمله ها هو اليوم موجود وقد فرش «مدته» ووضع عليها طعامه وراح يتناوله في سرور على الرغم من كون طعامه البسيط مكوناً من أسماك مجفَّفة ومطحونة «حساس» وضعت داخل «بادية» خزفية وقطع من الليمون الحساوي الشهير. وكان يتناول ذلك مع «الكرات» وإلى جانبه صحن تمر الخلاص. كان الفلاح يتناول طعامه وهو يتابع ويراقب حركة «الحمير» وهي تسحب حبال البكرات في ذهابها وإيابها وهي تعيش لحظات سعادة لا يمكن تصورها يتضح ذلك من خلال استسلامها لعملها الروتيني المتكرِّر طوال ساعات الصباح. واعتبر نفسي محظوظًا بالفرح مع (أبو ناصر) حين يحاول بين فترة وأخرى أن يتعمد رمي بعض من قطع الخبز الأحمر، بل وحتى بعض الأسماك «المفتتة»، بل إن ابن عمي البلبل الصداح قال لي مرة إصاحبنا الفلاح الطيِّب الحجي ناصر يتعمَّد أن يرمي الأسماك ذات اليمن وذات الشمال ليتيح لنا فرصة لالتقاطها. كم هو طيِّب هذا الرجل، فهو على يقين أننا سوف ننزل من أعلى لنتناولها، بل هو يتعمَّد ذلك، وعندما سألته عن هذا التصرّف أو الكرم الحاتمي..؟ أجاب باسمًا بعدما غرَّد بصوته الشجي: هذا الرجل كريم بطبعه انظر إليه لقد نثر البرسيم بكميات تحت أقدام «الحمير» ليشعرها باهتمامه وهذا يعني أن يده ليست مغلولة إلى عنقه مثل بعض الناس. إضافة إلى أنه يحب أن يشاركه أحد في طعامه حتى ولو كان هؤلاء المشاركون عصافير مثلنا ولا تنس أنه يستمتع عندما يشاهدنا نحط بجانبه أو بعيدًا عنه ونتقافز حوله ونطير بعيدًا ونعود لنحط بجواره من جديد، وقلت لابن عمي غرِّد له تغريدة عيد فهو يستحق التهنئة في هذا..