د. تنيضب الفايدي
المطلع على موقع المدينة المنورة يجد أن هناك عشرات الجبال تحيطها وتحاصرها من كل جهاتها، ولهذا قيل إن المدينة النبوية تقع في حوض جبلي، ومن أهمها جبل أحد الذي تسلط عليه الأضواء وعلى جوانبه دون الخوض في غزوة أحد مفصلاً فلها مجال آخر، وهو من أشهر الجبال في الجزيرة العربية وأحد المعالم الجغرافية والتاريخية بالمدينة المنورة، وعلامة مميزة تبشر القادم لقرب المدينة المنورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه. متفق عليه، وبه ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً في عظم الأجر لمن شيع جنازة أخيه المسلم وصلّى عليها، فعن ثوبان مولى الرسول صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان، والقيراط مثل جبل أحد) متفق عليه.
كان يقع جبل أحد على بعد 3كم من المدينة شمالاً وأصبح الآن في قلب المدينة النبوية، بل تجاوزه البنيان، وهناك عدة طرق كلها موصلة إليه، وسمي أحد لتوحّده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، وفي الجهة الجنوبية من هذا الجبل يجري شعب الجرار (المهاريس) أو (شعب سيد الشهداء) الذي يتجه إلى الجنوب ليصبّ في وادي قناة الذي ينحدر جنوباً ثم شمالاً ليلتقي بوادي العقيق.
ويوجد في جبل أحد غارٌ لم يدخله النبي صلى الله عليه وسلم فعن عبدالمطلب بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل غار أحد الذي بالجبل، وذكر أن في جبل أحد قبر هارون عليه السلام حيث مرّ موسى وهارون عليهما السلام بأحد حاجين أو معتمرين، وهذا كلامٌ غير صحيح، يقول السمهودي فيه: «وهو بعيد حساً ومعنى، وليس ثم ما يصلح للحفر وإخراج التراب».
وجبل أحد جبل صخري مرتفع طوله من الشرق إلى نهايته الغربية ما يقارب ستة أكيال ونصف، وعرضه في حدود أربعة أكيال خاصة من الجهة الجنوبية الشرقية إلى نهاية جهته الشمالية الشرقية.
وإذا ما أتيت أحد من الشرق ترى قمماً متعددة ورؤوس جبال كثيرة، ويخيل إليك أنها سلسلة جبال، وإذا ما صعدت جبل أحد سترى أن القمم والرؤوس عبارة عن هضاب متعددة ومتصلة، ولون صخوره تميل إلى اللون الأحمر، وبعضها داكنة وهي لافتة للنظر لجمالها وتنوعها.
ويوجد على قمة جبل أحد بعض المباني القديمة، وعندما تكون على إحدى القمم ترى المدينة المنورة أكثر وضوحاً من جميع جهاتها، وتملأ أقطار نفسك متعة برؤيتها.
وتوجد في قلب جبل أحد (المهاريس) وهي عبارة عن نقرة في الصخور أو مواقع تحفظ المياه المنحدرة من أعالي الجبل، والمهاريس من المواقع الجميلة جداً، خاصة في الصباح أو عند غروب الشمس وأكثر ما تكون جمالاً في أيام الربيع. وقد أتي للرسول صلى الله عليه وسلم ماء من المهاريس فعافه صلى الله عليه وسلم؛ لأن رائحته متغيرة، وغسلت جراحه.
وعند زيارة الموقع وخلال أعوام متفرقة وجد الكاتب ماء المهاريس كما وصف في كتب السير والتاريخ: أي متغير الرائحة واللون. وتحيط بالمهاريس صخور ملساء تنحدر حتى تلتقي مع بعضها في باطن الوادي، وتعلوه صخور متنوعة الألوان.
كما يوجد شعب آخر يسيل شمال جبل أحد أقيمت به حالياً بعض الأسواق، وبدأ البنيان يكتنف جبل أحد كما نحتت الصخور وفتحت بعض الطرق إلى قمته وانتشرت عليها المرسلات والمستقبلات ويا حبذا بقاء جبل أحد كما هو.
ما جاء في فضل جبل أحد
وردت أحاديث كثيرة في فضل جبل أحد وأنه جبلٌ يحبّ النبي صلى الله عليه وسلم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبّه، وليست الغرابة في ذلك فكما خلق الله الجبال المسبحة مع داود عليه السلام {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ....} خلق الله الجبال المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العسقلاني: «هو على الحقيقة، ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق الله المحبة من بعض الجمادات».
وقد ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد جبلٌ يحبُّنا ونحبُّه) وورد في الصحيحين أيضاً عن أبي حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث في رجوعه من غزوة تبوك فعن أبي حميد رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابةُ وهذا أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه). رواه البخاري.
جبل أحد والأدب
نظراً لما جاء في الأحاديث تبادل الحبّ بين جبل أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن ارتباط الإنسان بحبّ الموقع الذي نشأ فيه شيءُ طبيعي، فقد جاء ذكر جبل أحد في الأدب كثيراً. يقول الشاعر الأحوص وهي من غرر شعره:
أَأَنْ نادى هَدِيلاً ذات فلْجٍ
مَعَ الإشراقِ في فَنَنٍ حَمَامُ
ظَلِلْتَ كأنَّ دمْعَكَ دُرُّ سِلْكِ
هَوَى نَسَقاً وأَسْلَمَهُ النِّظامُ
تموتُ تشوُّقاً طرِباً ولحْناً
وأنتَ جوٍ بدائِك مُسْتَهامُ
وإنِّي من ديارِكَ أمَّ حفْصٍ
سَقَى بلداً تحلَّ به الغمامُ
أحلَّ النَّعفَ من أحدِ وأدنى
مساكِنَها الشبيكة أو سنامُ
وقال عبيد الله بن قيس الرُّقيات
يا سيّد الظاعنين من أحد
حييت من منزل، ومن سند
ما إن بمثواك غير راكدة
سفْعٍ وهابٍ كالفرخ ملتبد
جبل أحد شاهد عيان على الغزوة
شهدت ساحاته الجنوبية ثبات وبطولة وتضحيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وقعت فيها غزوة جاء ذكرها في القرآن الكريم وسميت هذه الغزوة بغزوة أحد نسبةً إلى هذا الجبل، وذلك في السنة الثالثة من الهجرة.
وكان سببها هزيمة المشركين يوم بدر، حيث ظل الغيظ يتوقد في صدورهم، واتفقوا على أن يغزوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة المنورة للثأر والانتقام لقتلاهم يوم بدر، وكان قائدهم أبا سفيان.
وكان من أسبابها أيضاً السبب السياسي وهو انهيار سيادة قريش وتزعزع مركزها بين القبائل بعد غزوة بدر. كما أن من أسبابها نفوذ المسلمين على الطرق التجارية المؤدية إلى الشام وإلى العراق وسيطرتهم عليه فأصبحت تجارة قريش تحت رحمة المسلمين، خرجت قريش مع قوة كبيرة بقيادة أبي سفيان قوامها ثلاثة آلاف مقاتل، ونزلت بالسبخة قريباً من جبل أحد.
واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، وخرج مع سبعمائة رجل بعد انسحاب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين حتى وصل إلى أحد، واتخذ ساحات جبل أحد الجنوبية موقعاً لتلك الغزوة، حيث استقبل المدينة وجعل ظهره وظهور أصحابه إلى جبل أحد، وكان جنبه جبلٌ يسمى جبل عينين، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجبل خمسين من الرماة بإمارة عبدالله بن جبير وقال: «احموا لنا ظهورنا، فإننا نخاف أن يجيئوا من ورائنا والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل». وفعلاً حاولت خيول المشركين الإغارة على المسلمين من الخلف فصدّهم الرماة ثلاث مرات فلما نزلوا ولم يبق منهم إلا رهط يسير التف عليهم خالد بن الوليد في خيول المشركين فقتلوهم وهجموا على المسلمين من خلفهم. وبداية هزم المشركون هزيمة ساحقة حتى تجاوزوا أمتعتهم وتركوا نساءهم خلفهم، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: «فلما لقيناهم هربوا، حتى رأيت النساء - نساء المشركين- يشتددن في الجبل قد رفعن عن سوقهنّ قد بدت خلاخلهن، وهن مدبرات هواب» رواه البخاري.
ووصل المسلمون إلى أموالهم وبدأوا في أخذ الغنائم ونزل أغلب الرماة من الجبل ظناً بأن المعركة قد انتهت، ونسوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا قائدهم وبعض الصحابة الذين لا يتجاوزوا العشرة، رأى خالد بن الوليد الفراغ فدخل من هذا الطريق وقتل ما بقي من الرماة وقائدهم حيث كان عددهم قليلٌ، فاجأ المسلمون من هجوم الكفار من أدبارهم ففقدوا مواقعهم الأولى وأخذوا يقاتلون متفرقين بدون تخطيط، فانقلبت الهزيمة بالنسبة للمشركين إلى التفاف حول المسلمين وأصاب المسلمون القرح وهو البلاء والمحنة الشديدة والهزيمة المؤقتة، واختلف علماء السير في عدد شهداء أحد، فعن مالك أن عدد شهداء أحد خمسة وسبعون: من الأنصار خاصة واحد وسبعون، ومن الناس من يقول السبعين من الأنصار خاصة، وهذا يوافق ما ذكره أنس رضي الله عنه: «قتل منا يوم أحد سبعون». وقد عدّد البعض إلى مائة وثمانية، المهاجرون منهم ستة والباقون من الأنصار وحلفائهم ومواليهم، لذا من الضرورة تصحيح المعلومات التي في المناهج حول عدد الشهداء حيث يذكر دائماً بأنهم (70) شهيداً، وتوارثها الأبناء عن الآباء، والصحيح أنهم أكثر من مائة ما بين (101-108) شهداء وقد ذكرت هذا العدد مع ذكر أسماء الشهداء في كتابي (تسهيل الوصول إلى غزوات وسرايا الرسول صلى الله عليه وسلم).
وأصيب الرسول صلى الله عليه وسلم وجرح في وجهه الشريف حتى سال منه الدم، وكسرت إحدى أسنانه الأربعة بين الثنية والناب، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، ورمي رمية على كتفه، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم؟». رواه الإمام أحمد.
وفي نهاية يوم معركة أحد غادر المشركون ولم يظفروا بأي نصر حيث إن القائد محمد صلى الله عليه وسلم سليم، ولم يدخل المدينة ولم يحصلوا على أي غنائم؛ لذا لم يكن انتصاراً لهم بمعنى الانتصار الحقيقي، ولم تكن هزيمة للمسلمين وإنما كانت درساً قاسياً لهم.
وفي طرف الشعب الشرقي من جبل أحد صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بعد انتهاء المعركة وصلّى جالساً وصلّى الصحابة معه جلوساً لما أجهدهم من الجراح، وفي هذا المكان من شعب جبل أحد غسل عن النبي صلى الله عليه وسلم دم الجراح التي أصيب بها وجهه صلى الله عليه وسلم أثناء غزوة أحد، حيث جاءت فاطمة رضي الله عنها وأحرقت قطعة من حصير وكمدت به الجراح فتوقف دمه الطاهر -فداه أبي وأمي ونفسي وكل غالٍ ونفيس - رواه البخاري. فهذه الجرار (المهاريس) شاهدة من شواهد غزوة أحد وارتبطت بالغزوة ارتباطاً وثيقاً، والموقع الذي صلّى به صلى الله عليه وسلم ذكره المتقدمون والمتأخرون من المؤرخين، وهو موقع مسجد أثري يسمى مسجد الفسح وقيل: مسجد أحد لملاصقته بجبل أحد. وقد اكتنفه البنيان حالياً حتى ضيق عليه الخناق من جميع الجهات.
وقد تعوّد الكاتب أن يصحب تلاميذه وبعض طلاب وأساتذة الجامعات وفئة من زوار مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم تعوّد أن يصحبهم إلى مواقع ومآثر متعددة داخل المدينة المنورة وذلك لأكثر من أربعين عاماً خلت، حيث تقدم المعلومة الصحيحة من الميدان أي في الموقع نفسه، سواءً كانت مساجد أو جبالاً أو آطاماً أو قلاعاً أو أودية، وذلك بزيارتها والوقوف عليها، وتتحقق أهداف السياحة أو الجولة من اكتساب ثقافة علمية، واسترواح عبق التاريخ، والارتباط بمواقع وأماكن بها شرفت بخطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وامتلأت نوراً بطلعته صلى الله عليه وسلم، وطاب هواؤها وزكت رائحتها من امتزاجه بمسك أنفاسه صلى الله عليه وسلم، وقد لمس الكاتب أثر السياحة أو الجولة في الأماكن التي عاش بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زارها، أو صلّى بها، ولمس أثر ذلك على السائحين أو الزائرين، ورأى مدى الانفعال والسرور بل ورأى من بكى شوقاً أو ذرف دمعاً، إي وربي لقد رأى ذلك!! ولا غرابة في ذلك ألم يغلب الدمع ذلك المحب عندما وصل بعد جهد شاق إلى طيبة الطيبة لدرجة أنه لا يستطيع أن يمتع نظره بها لتواصل دمعه، لذلك خاطب مقلته قائلاً:
دعى البكاء لوقته
يا مقلتي وتمتعي
وتنعمي طيب اللقاء
وردي لذيذ المشرعِ
وأنا الكفيل إذا رحلـ
ـت من البكاء أن تشبعي