د.عبدالله بن موسى الطاير
مرَّت المملكة العربية السعودية خلال السنوات السبع الماضية بتغييرات جذرية وتحولات مصيرية، وعندما نقول إنها جذرية فإننا نعني أنها توجهت لجذور الخلل السياسي، والاقتصادي، والمجتمعي بتفكير خارج الصندوق، وآليات تنفيذ غير مألوفة في النظام الإداري التقليدي، وهو ما جعل من تجربة التحول السعودية قبلة للدراسات والتحليلات.
القادة القادرون على إحداث تحولات جوهرية على مستويات المجتمع والاقتصاد والسياسة والأمن دفعة واحدة قلة في هذا العالم، فالكثير وخصوصاً في عالمنا الثالث يفضِّلون إدارة الشؤون اليومية لمجتمعاتهم، وتحسين آليات التعامل مع المشكلات الماثلة، ونادراً ما يجرأون على عمليات معقدة وصعبة تستشرف المستقبل أكثر من انشغالاتها بالمعاش اليومي. وفي اللحظة التي يقرِّر فيها قائد الإقدام على هذه العملية متعدِّدة الأبعاد يكون على يقين من إمكانات بلده، فالدول والاقتصاديات والمجتمعات الهشة لا تتحمَّل تبعات التغيير في مسار واحد فما بالك بمسارات حيوية متعدِّدة.
وإذا قصرت الحديث عن التغيير السياسي؛ فإننا بعد سبع سنوات نقف على عتبات مرحلة مهمة في السياسة الخارجية السعودية، وهي بكل تأكيد ذات لون ونكهة غير معتادة في التعاطي السعودي مع الشؤون الخارجية. فخلال السنوات القليلة الماضية قرَّرت المملكة مواجهة التحديات الإقليمية، والقيادة من الصفوف الأمامية. سبب هذا التحول دوياً حول العالم، وفي غير المملكة ربما كانت ردود الأفعال كفيلة بإجهاض التحول، غير أن صانع القرار السعودي كان يعرف ما يريد ويفعله على النحو الصحيح. ورغم استعجال النتائج، فقد تمتع القرار بالصبر الكافي لإنضاج الثمرة.
اليوم نستطيع القول إن الشأن اليمني قد بدأ حقبة جديدة منذ تشكّل مجلس السيادة القيادي، وأصبح مصير اليمن بأيدي نخبة تمثّل أطراف اليمن كافة، فإن قرَّر هؤلاء تحرير بلدهم، فهم قادرون على ذلك، وإن اختاروا القبول بحكم الحوثي فذلك شأنهم، وستحمي المملكة حدودها ومكتسباتها، وفي الذاكرة أنها شنّت حرباً لإعادة الشرعية ولمنع تحول اليمن إلى موطئ قدم لقوى معادية. وفي لبنان، اتخذت المملكة قراراً حازماً بمواجهة أس المعضلة، ووضعت اللبنانيين أمام مسؤولياتهم، وسحبت سفيرها وطلبت مغادرة السفير اللبناني على الرغم من مكانة شعب لبنان لدى المملكة، ولكن كان لا بد من احتجاج مسموع على ما آلت إليه أحوال لبنان، وتسمية الأمور بمسمياتها بدلاً من اللف والدوران حولها. وبعودة السفير السعودي إلى لبنان يكون ملف آخر في طريقه للهدوء بعد الملف اليمني.
وخارج السياق العربي، استقبلت المملكة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبدون شك فإن العلاقات الباردة مع أنقرة خلال ثلاث سنوات مضت كانت فرصة ليتحدث البلدان إلى بعضهما بوضوح، وقد أيقن الأتراك أنهم أمام واقع سعودي مختلف وأن سبر الفرص والتحديات القادمة يتطلب بناء الثقة على مستوى هرم القيادة. وفي ظني أن العلاقات السعودية التركية ستعاد هندستها على أسس واقعية ووفق مخرجات يمكن قياسها بعيداً عن الشعارات الفضفاضة، والإحالات التاريخية منتهية الصلاحية، وسيكون الاقتصاد هو اللغة الأكثر وضوحاً في علاقات البلدين، كما أن تحسّن العلاقة السعودية التركية سيؤدي إلى مزيد من الاستقرار للمنطقة برمتها.
وعلى صعيد الملف الإيراني نجد تقدماً ملحوظاً للحوارات التي تستضيفها بغداد، ويبدو أن الطرف الإيراني قد أخذ وقتاً كافياً للتعرّف على النهج السعودي الجديد، ولا مناص من التعامل مع الطرف السعودي وفق شروطه وبما يحقق مصالح الطرفين والمنطقة.
ما يميز النهج السعودي في السياسة الخارجية أنه يستمد من التقاليد السعودية في الحكم نفسها الطويل، إذ لم يعد مقبولاً أن تصفعني على خدي الأيسر فأدير لك الأيمن، ولم يعد وارداً أن تجّيش عليّ عملاءك في الإعلام، وفي الشبكات الإرهابية العابرة للقارات، بل أصبح لكل فعل رد فعل مضاد له في الاتجاه وأشد منه في القوة. النهج السعودي الجديد إضافة إلى طول النفس يتمتع بصلابة لا تلين، وحزم لا يقبل التنازل.
سبع سنوات كانت كافية لمن يريد أن يتعرَّف على السياسة الخارجية السعودية بحلتها المختلفة في عهد الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وأن الملفات الأربعة التي تشهد تهدئة ملموسة وهي اليمن ولبنان وإيران وتركيا قد أثبتت رباطة جأش، وإصرار، وتحمّل تبعات القرار، وبالتالي فإن التهدئة جاءت نتيجة حتمية لتطور الموقف السعودي المؤسس على المبادرة، وعدم استعجال النتائج، وعدم التنازل تحت أي ظرف. ولذلك فإنني موقن أننا دخلنا حقبة جديدة باتجاه تصفير المشاكل الإقليمية العويصة.