يبدأ شهر رمضان مزدحماً بالأعمال والعبادات فنستقبله مرحبين: أهلاً... أهلاً. هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، وساعاته أفضل الساعات. شهر دعينا فيه إلى ضيافة الله، أنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا فيه عبادة، وعملنا فيه مقبول، ودعاؤنا فيه مستجاب، وخلوف فم الصائم فيه أطيب عند الله من ريح المسك! فهل هناك أكبر من هذا الكرم الإلهي؟!
يأتي رمضان محملاً بالخيرات والهبات والرحمات والجوائز والعطايا من رب البرايا، يدعونا لاستغلاله قبل وقوع المنايا، فليت شعري وعجبي ممن يقصر فيه ويضيعه بالأمنيات والتمنيات والملهيات!
هو شهر فوق العادة، فيه تصحيح لعلاقتنا بربنا، وتغيير لسيئ عاداتنا، إنه مدرسة الثلاثين يوماً كما وصفه الرافعي في وحي قلمه، بل جامعة تربوية عجزت المدارس النظامية أن تنافسه في غرس القيم والأخلاق!
هو دورة أخلاقية وتربوية وقيمية، وثورة النفس على شهواتها ومساوئها من الجهل والكراهية والكسل، وطول الأمل وتناسي الأجل وحب الأموال، والتعلق بالفانية ونسيان الآخرة.
هو درة الشهور وسيدها، مختلف جداً عن بقية الشهور، أيامه معدودات، أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن على نبي الأكوان، فيه ليلة لا كألف ليلة وليلة من قامها نال الفردوس الأعلى.
إذا هل هلاله نستقبله بالسرور والحبور، والفوانيس وإطلاق إحدى وعشرين طلقة من المدفعية، وسرعان ما يودعنا على عجل، فنودعه بالدموع ولم ننه فيه العمل، ونقول له: مهلاً مهلاً.
رمضان شهر الإرادة والأمل والعمل لا شهر الكسل، شهر الغزوات والفتوحات والانتصارات كغزوة بدر وفتح مكة المكرمة المبين.
رمضان شهر الأسئلة المفتوحة التي تحتاج تفكيراً ناقداً؛ لنجيب عليها بإجابات قاطعة قبل الرحيل: هل قضيناه مجرد طقوس اجتماعية وشعائر دينية تزيد فيه وتنقص بانتهائه؟
هل كان شهراً فوق العادة، زيناه بالعبادة؛ لننال الرضا والسعادة، أم كان شهراً استثنائياً زيناه باللهو والترفيه، والصخب والمسلسلات، والفوازير والمسابقات في الليالي الملاح؟
رمضان شهر الصلاة والدعاء والاعتكاف والقرآن والقيام، فهل قمناه إيماناً واحتساباً ليغفر الله لنا ما تقدم من ذنوبنا؟
إنه شهر التغيير في كل شيء فما الذي غيره فينا فيه وبعده؟ وهل زاد استغفارنا فيه على ما فرطنا في جنب الله، وأسرفنا في المعاصي؟
رمضان شهر اجتماعي من الدرجة الأولى فهل عمرناه بالحب والتعارف والتكاتف وصلة الرحم؛ لنستجيب لنداء المحبة والتعارف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ....}.
كما يمضي العمر سريعاً سيمضي رمضان أسرع، والسعيد من غُفر له، والشقي من حرم غفران الله فيه. أجزم أن رمضان ليس من أعمارنا، ولو علم الناس ما في رمضان من الخير لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان، فإذا انصرمت أيامه فلا ترموه بأحجار المعاصي.
الحديث عن رمضان ذو شجون، جميل مكرور، لا يمل، ولله در مصطفى صادق الرافعي حين قال عنه في كتابه وحي القلم: «شهر أيامه قلبية في الزمن، متى أشرقت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، تتعهد فيها النفس برياضاتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنها أُجِيعت من طعامها اليومي كما جاع هو».