د. تنيضب الفايدي
الحديث عن طيبة ممتع، ويا من يَسْعَدُ بسكن المدينة المنورة أو زارها أو مشى على أرضها، ويتذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشى على أرضها وجلس ونام؛ لأنك أيها السعيد تسكن وتتحرك على أرض تطهرت بمروره - صلى الله عليه وسلم - عليها، وترى مواقع وحراراً وجبالاً اكتحلت برؤيته - صلى الله عليه وسلم - ، بل وتتنفس هواء تنفسه - صلى الله عليه وسلم - ، ويحيط بك فضاء أحاط به - صلى الله عليه وسلم - ، وفي كل دار من دور الأنصار له قصة - صلى الله عليه وسلم - ، وفي كل حديقة (حائط) حديث، وفي كل واد من أودية طيبة وشعابها توجيه لأصحابه رضي الله عنهم، وفي كلّ مكان صلى به - صلى الله عليه وسلم - له دعاء مستجاب، فهي مهوى أفئدة المؤمنين؛ لأنها بلد الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، ومأرز الإيمان ومُهَاجَرُه - صلى الله عليه وسلم - ، ومَضْجُعُه، لذا فإن الجميع: من كان في هذا اللقاء المبارك ومن هو خارجه: في سعادة بهذا الجوار، وهذا الجوار محبب إلى القلوب جميعها، ومن أحبّها لا يمكن أن يسلو:
وحفظتُ عهد ودادها متمسكاً
في حبِّها برشادهِ وغيِّهِ
ولها سرائرُ في الضميرِ طويتُها
نسيَ الضميرُ بأنها في طيِّهِ
وللعيد في المدينة : أريج العطر، وهمسة الحب، وعبق الزهر، أليست هي: «الحبيبة والمحبة والمحببة والمحبوبة» أحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا بتحبيبها. أليست إذا ذكرت أقبلت القلوب إليها استجابة لدعائه لها - صلى الله عليه وسلم - «اللهم أقبل بقلوبهم»، إنها تغذي ساكنها وزائرها بكلمات الحب لأنها طابة وطيبة. حيث طاب هواؤها وتطيبت تربتها ويتحقق ذلك واقعاً ملموساً وأنت تتجول في أرجائها.
ألم تر أني كلّ ما زرت زينباً
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
إنك ترى اخضرار أشجارها قبل الربيع وتشعر بأن تراب أوديتها الذي تمشي عليه يختلف تماماً عن غيره.
وطيبة اسم لمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقال لها: طيبة وطابة، من الطيب وهي الرائحة الحسنة لحسن رائحة تربتها فيما قيل. والطّاب والطيب لغتان، وقيل: من الشيء الطيب وهو الطاهر الخالص، لخلوصها من الشرك وتطهيرها منه، وقال الخطابي: لطهارة تربتها، وهذا لا يختص بمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل الأرض كلها مسجد وطهور، وقيل: لطيبها لسكانيها ولأمنهم ودعتهم فيها. وقيل: من طيب العيش بها من طاب الشيء إذا وافق، وقال الشاعر:
فلما أتانا أظهر الله دينه
وأصبح مسروراً بطيبة راضياً
وقال الآخر:
وعلى طيبة التي بارك الله
عليها بخاتم الأنبياء
وقال الشاعر:
يا أهل طيبة قد سكنتم أضلعي
فواددُكم نامٍ وشوقي مُحْكمُ
لا غروَ أن أرعى هواكم منشداً
من أجل عين ألف عين تُكرمُ
ويتكرر ذكر طيبة على الألسن:
أيا ساكني أكنافِ طيبة حسبُكم
من السعي للعليا جيرةُ أحمدِ
فمن يبتغي عنها بلاداً وإن سمت
لأمْرٍ من الدنيا فليس بمهتدِ
وكل من سكن المدينة يشعر في أيام العيد وغيرها بأن للعيد فرحة ونشوة السعادة، كما يشعر بأن الحبّ في قلبه أكبر من مجموع الحبّ في القلوب جميعاً، كما يشعر بأن الجميع يشاركه هذه الفرحة وهذا الحبّ؛ لأن طيبة أعطت للعيد بُعداً، ها هم (الحبش) يرقصون برمامحهم وحرابهم فرحين آنسين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تتفرج وتفرح، العيد فرحة، وللفرحة أحكام .. رقص الرجال مطلوب لإعلان الفرح ها هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يقدم عليه حين فتح خيبر، وتلقاه - صلى الله عليه وسلم - فرحاً وقبله (والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر).. أقبل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهداه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وساماً يبقى ما بقي الزمان حيث قال له: «أشبهت خلقي وخلقي» وما أروعه من وسام.. هنا حجل (رقص) جعفر وله أن يرقص إعلاناً للفرح.
وهناك شواهد أخرى كثيرة تدل في مجموعها على إباحة اللهو واللعب في العيد، وفي غيره فقد ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة». وورد أنه قال - صلى الله عليه وسلم - «روحوا القلوب ساعة وساعة»، وورد في صحيح مسلم وغيره من قوله - صلى الله عليه وسلم - «يا حنظلة ساعة وساعة». وقال عليّ - رضي الله عنه - « أجمّوا هذه القلوب، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان وفي طيبة تعلن أصوات المدافع ليلة العيد، وتعم الفرحة والسرور.
وتحرص العوائل في ليلة العيد إلى الإعداد ليوم العيد ولاسيما الملابس، وأنواع الحلوى والعطور، وما يقدم للزوار ولاسيما أن بيوت المدينة المنورة تكون مفتوحة لكل زائر، بل قد لا يوجد من يستقبلهم لأن (الصالون) مفتوح للجميع .
وتجمعات العيد لها نظام، حيث مهرجان العيد وكان قبل عدة عقود يقام بباب الكومة،ثم انتقل إلى السيح، حيث توجد المراجيح باختلاف أنواعها وتصلح لمختلف الأعمار، بدءاً بالمراجيح الكبيرة وانتهاء «بهزي مركب». إضافة إلى: العربات المزركشة التي تجرها الأحصنة والبغال والحمير، وهذه العربات يركبها الأطفال إلى مسافات ليست بعيدة وهي عربات جميلة مزركشة بمختلف الألوان، ويزيد الموقف جمالاً الأناشيد التي يرددها الأطفال.
أما الحمير في العيد فلها قصص مختلفة، وهذا الاختلاف يأتي في السعر «أي ما يدفع في المشوار الواحد» وذلك حسب المسافة، وحسب (زركشة) الحمار، وحسب أصل الحمار، ونادراً ما تكون حمارة في مهرجان العيد، وذلك لأنها تشغل صاحبها في الدفاع عنها، من (معاكسات الحمير طبعاً) وكم أسقط الحمار راكبه في مهرجان العيد بسبب حركات تلك المعاكسات، مع رؤية حاجات تصدر (من بعضها) - الحمير تبعاً - ولا يمكن التصريح بها . وعلى فكرة فإن هيئة الأمم المتحدة خصصت يوماً للحمير أطلقت عليه اسم (اليوم العالمي للحمير)، بل بعض البلدان أقيمت لها مسابقات لاختيار (ملكة جمال الحمير).
وعلى هامش مهرجان العيد هناك ألعاب شعبية يمارس بعضها وإن لم تكن له علاقة بالعيد ومنها:
المزمار : وهي لعبة رجولية خطرة لها قوانين وقواعد وتتم ممارستها في العيد وبعض المناسبات الأخرى كالزواج، وتستخدم العصا والرقص على قرع الطبول حول النار وقد يتسبب الخطأ في هذه اللعبة إلى مشاجرات وإسالة الدماء ولا سيما بين «المشاكلة أو الفتوة».
هناك مجموعة من الألعاب: وتكون إما على شكل مجموعات أو شخصين أو (طفلين) أو أكثر عند ممارستها ومنها: (وبعضها لا علاقة له بالعيد وإنما ذكرت للتاريخ فقط) الكُبوش، الحجاج، طبطب، الدَّحل (البرجوة) المزويقة (المرصاع) الكبت، طيري (الغميمة) عُصفر، اصطففت، الطاقية، (طاق.. طاق.. طاقية) البِربِر، أم الخمسة، التزقير، شيخ الأرض (وله اسم آخر) الطاب، الضاع، عظم وضاح (عظيم ضاح) .. إلخ.
ومهرجان العيد وما يقدم فيه وإن كان أساساً للأطفال إلا أنه يجمع الناس على الحب والتآلف والتواصل والتراحم والتزاور والتقاء القلوب.
وأخيراً يا أيها القراء والقارئات: كل عام وأنتم بخير، ومن المؤمل أن تعطفوا على من تجاوز (60) عاماً من العمر، ولاسيّما من فقد شريكة حياته أمثالي، فقد فقدت زوجتي من عدة أعوام (نجاة أحمد الطيب) رحمها الله، وكلّما حاولت النسيان (جدّ في التذكار جُرْحُ)، وختاماً أهديها وأهدي أهل طيبة:
يا أهل طيبة لا أقول أحبّكم
الحبّ أنتم والدليل دموعي
الناس تسكن في البيوت وإنكم
أهل المدينة تسكنون ضلوعي