كانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حياً.. حقاً لقد أتعبت أبناءك من بعدك أيها الرجل النبيل.. فأنى لنا أن نكون مثل خلقك ورقيك وجميل طباعك يا ألطف الناس.
سأكتب لكم في هذه العجالة يسيراً مما تعلمته من حياة والدي ومماته.. عليه من ربي الرحمة والمغفرة والرضوان:
- تعلمت منه حسن الخلق والرقي في التعامل مع الجميع.. الصغير والكبير.. القريب والبعيد.. ومراعاة الخواطر ومداراتها حتى وهو في مرض الموت.. ولا يستطيع ذلك كل أحد.. نسأل الله التوفيق والسداد.
- تعلمت من ذلك الوجه الطيب سلامة الصدر على الجميع حتى على المخالفين والمعارضين..
وهذه التي لا نطيق.. أعاننا الله على أنفسنا.. حتى تستقيم لأمر الله.
- تعلمت منه كيف يكون حفظ اللسان.. فيعلم الله أني ما جلست معه مجلساً فسمعته يتكلم على فلان أو يلمز فلانا.. أو يستهزئ بفلان.
- تعلمت منه التماس الأعذار وان لم يكن ثمة عذر.. فلم أره يعتب على أحد.. ان أتوا إلينا فحياهم الله.. وإن لم يأتوا فلديهم عذر يمنعهم.
- تعلمت من والدي أن الصبر على البلاء وعدم الشكوى والاستسلام لأمر الله، هو توفيق وتثبيت من رب العالمين.. لا للانسان فيه يد ولا منة، وإنما هو فضل محض من أكرم الأكرمين.
وفي المستشفى.. وفي قسم الرعاية الممتدة تحديدا.. وهي بنظر الأطباء لمن ليس لهم شفاء الا بإذن رب العالمين..عشت أسابيع بين أنين المتعبين في الغرف المجاورة حولي، ودموع أهلهم ومحبيهم.. وأيامهم المتشابهة.. شعرت بمعنى (تساوت أيامهم) فيومهم كأمسهم ومثله الغد.. فلا لون ولا طعم للحياة سوى انتظار الموت والله المستعان.. وبين يوم وآخر نودع أحدهم.. فالحمد لله على كل نعمة نتقلب فيها بفضل رب العالمين.
- حين تعب والدي وضعفت قدماه عن السير.. ويده حتى عن الإمساك بكأس الماء.. ولسانه عن الكلام.. وكنت أسمع للماء اليسير الذي يشربه صوت غصة في حلقه من صعوبة نزوله.. فهمت المعنى الحقيقي لحديث حبيبنا صلوات ربي وسلامه عليه (ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدا ما أحييتنا واجعلها الوارث منا).. فاللهم ارزقنا شكر كل نعمة اعتدنا عليها فلم نعد نشعر بوجودها.. ومتعنا بها إلى أن تخرج أرواحنا من أجسادنا..
- وفي مغسلة الموتى.. الموتى كانوا مصفوفين بانتظار أهلهم للسلام عليهم.. وعلى كل واحد منهم ملصق مكتوب عليه الاسم.. منظر مهيب بكيت على نفسي.. فحتما سأكون هنا في يوم ما..
فيا رب سددنا ووفقنا وثبتنا..
ولا تتوفانا الا وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين.
وختاماً..
تعلمت أن العبرة بالخواتيم.. وأن الموازين ليست موازين البشر.. فلا نحكم لفلان بجنة ولا بنار وإنما هي خبيئة بين الإنسان وأرحم الراحمين.. الذي هو أرحم بنا من أمهاتنا.. وبيننا وبينهم يوم الجنائز.. ويا أحبه لمثل هذا اليوم فأعدوا.
نسأل الله لنا ولكم ولكل مسلم الثبات حتى الممات وأن يجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا.. وأن يمتعنا بلذة النظر الى وجهه الكريم.. والحمد لله رب العالمين.
هذا ما جادت به نفسي المكلومة لفقد حبيب الجميع.. أسأل الله أن يجعلني حسنة في ميزان حسناته.. فقد تعلمت من أخلاقه ورقيه وذوقه ما لم أتعلمه من كثير من الكلام..
والحمد لله على ما قضى وقدر وما هو إلا ألم الفقد وحزن الذكريات.. والا فهو في ضيافة أرحم الراحمين إن شاء الله.
** **
- بقلم ابنته/ نجلاء علي الغامدي