سلمان بن محمد العُمري
البر بالوالدين من شعائر الدين، وحقهما عظيم، ولا يقصر في هذا الحق إلا ضعاف الإيمان، ولقد تكدرت واعتصرني الألم وأنا أسمع من أحد الأحبة عن مأساة امرأة كبيرة في السن قارب عمرها التسعين عاماً تأخر ابنها الذي يبلغ عمره السبعين عاماً في زيارتها، ومضى ما يزيد على الشهرين وهو لم يزرها، فما كان منها إلا أن تحاملت على نفسها وضعفها وآلامها وذهبت لتزوره بنفسها، وهو طبع كل أم في تنازلها عن حقوقها لأجل أبنائها وتراهم صغاراً يستحقون الشفقة حتى وإن غطى رؤوسهم الشيب، وبقدر ما آلمتني قصة هذا العاق وغيرها من قصص العقوق، فإن الدنيا ما زالت بخير ونحن نسمع قصص التنافس الشريف في خدمة الوالدين أو أحدهما من قبل أبنائهم وبناتهم.
وقد استوقفتني قصة عجيبة حق لها أن تخلد في كتب التاريخ والأدب والمروءة، فقد ذكر الدكتور خالد بن بشير معافا المحامي وقاضي الاستئناف سابقاً: أنه في عام 1433هـ تقريباً نظرتُ في المحكمة العامة بصبياء دعوى مقامة من أخوين وأختهما ضد أخيهما الرابع - وجميعهم أعمارهم فوق الستين -، ذكروا أن والدتهم مقيمة في منزل أخيهم المدعى عليه، وقد كانوا يزورونها يومياً، وبعدما تزوج أخوهم زوجة ثانية في محافظة أخرى أصبحوا لا يستطيعون زيارة والدتهم إلا يوماً بعد يوم؛ وهو اليوم الذي يكون فيها موجوداً عند الزوجة الأولى.
فلم يصبر الأبناء - المسنون - عن والدتهم، ولم يتقبلوا أن يحرموا من والدتهم يوماً بعد يوم، ولم يقبل أخوهم أن يتنازل عن سكن والدتهم معه وانتقالها لإخوته وإيثارهم بها.
وطالب الإخوة بانتقال والدتهم من بيت أخيهم إليهم ليكون لهم نصيب من برّها والقيام على شؤونها، وحاول الأخ مع إخوته أن تستمر أمه معه، وكان يقبّل رؤوسهم ويبكي ويقول لهم «لا (تفقعوا) عيني، لا تطفئوا نور بيتي»، ولكنهم رفضوا وهم أيضاً يبكون، سألت عن الأم وهل ما زالت في كمال أهليتها فأجابوا: نعم. طلبت حضور الأم فأحضرها الابن بعد قرابة ساعة وهو يقود كرسيّها المتحرك، وعرضت الأمر عليها وأين ترغب أن تسكن فنظرت إليهم جميعاً فأجابت: «كلهم عيوني وما أفضّل واحد على الثاني».
وبعد محاولات التزم الذي تسكن أمه في منزله أن يكون موجوداً بشكل يومي من بعد صلاة العصر إلى العشاء في المنزل الذي فيه أمه ليسهل على إخوته زيارتها يومياً ورضوا بذلك بشرط عدم إخلاله بذلك.
وقاموا جميعاً يقبّلون رؤوس بعض وأخذوا معهم أمهم وخرجوا، نعم خرجوا، ولكن لم تخرج صورتهم وكلماتهم من الذاكرة، وما زلت أتذكّر أخاهم وهو يتلطّفهم ويترجّاهم، وما زلت أتذكر دموعه على خده ولحيته، وما زلت أراهم وهم يرفضون ويحاجّونه بحقّهم في برها ونوال بركتها.
شتان بين القصتين وشتان بين البارين والعاقين، والناس في القطيعة والبر أصناف، وكذلك فإن المقصرين في حقوق الوالدين أصناف فمنهم قاطع لوالديه ولا يراهم ولا يرونه إلا بشق الأنفس، والبعض خالفوا هدي دينهم في بر الوالدين واتبعوا التوجهات الغربية فجعلوا الاحتفال يوماً وباقي العام إهمال تام ولا مكان لعاطفة البر بالأم في قلوبهم، وأحدهم يراهم ويرونه، ولكنهم لم يذوقوا بره مطلقاً، وهو يتصور أن البر بالوالدين مجرد قبلة رأس فحسب وليس ذلك بل هو: خفض جناح، وتلبية حاجة، وطيب نفس، ومسارعة لخدمة، وإدخال سرور، وتفريج كربة، ودعاء، كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا)، قال ابن عمر لرجل: أحيٌّ والداك؟
قال: عندي أمّي.
قال: فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر. (إسناده صحيح).
ولقد أعجبتني مقولة: بر الوالدين؛ ليس مناوبات وظيفية، بينك وبين إخوانك بل مزاحمات على أبواب الجنة، وكما بينت أنواع المقصرين في البر فإن الوصل أيضاً مختلف ومتنوع: فمن يخدم والديه أو يلبي طلباتهما ويفعل ما يطلب منه وهو كاره، فهذا (لا يؤجر)، وكذلك الحال بمن يتبع خدمته لوالديه بالمنّ والأذى والتأفّف ورفع الصوت؛ فهذا (يؤزر) و(لا يؤجر) حتى وإن نفذ واجباتهما، ومن يفعل ما يؤمر به، بطيبة نفس، فهذا (مأجور)، ومن يقوم بما يريده والداه قبل أن يأمروا به، فهذا هو (البارُّ الموفق)، وهم نادرون.
إن برّ الوالدين «دِين، ودَين»: فالأول يأخذك إلى الجنة، والثاني يرده لك أبناؤك.
اللهم ارزقنا برهما أحياءً وأمواتاً، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات.