«الجزيرة الثقافية» - يحاورها جابر محمد مدخلي:
الحكاية الأصيلة هي التي تمنح النصوص التي نقرأها موعدًا لا نخلفه، والكتابة عن تجربة ما هي التي تمارس علينا ضغوطها حتى لا ننساها. الواقع وجه آخر يخفيه الكاتب ويُنكّره ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. لكن كاتبة أصدرت عملًا روائيًا أسمته: «لو أننا أشباح» وظلّت تسقيه طوال كتابتها بواقعية، وتُشعرك أنك تحيا حياة أبطالها الذين لم تلتق بهم، أو تشعر بهم إلا من خلال أناملها التي استثمرت أبجديتها وأصلحت بها عطب الذكريات الأليمة، وسقت نبتةً سرديةً أرادت أن تتلمّس من خلالها طريقًا للنجاة من عُصارة الأمس العالقة كغصةٍ في مجرى التنفس. يمكننا أن نتخلى هذه المرة في حوارنا هذا عن القول: «فإلى نص الحوار» لنقول عوضًا: إلى نص الإنسان وجسد الكتابة. إلى حديث عامر بالشفافية البيضاء مع الكاتبة عبير الرمال:
* برأيكم ما الدوافع التي تحتاجها الكاتبة السعودية -اليوم- لتبدع في مجال الكتابة الفسيح وتحديدًا مع هذا الكم الهائل من المتغيرات الإيجابية والمتسارعة والمتصاعدة بتجربتها؟
- كل امرأة قادرة على الإبداع، والكتابة لا تحتاج الى هواة أو محترفين؛ فالكاتبة لا تقرر فجأة أن تكتب رواية دون دوافعها الخاصة بها، ودون طائر يحوم في ذهنها، طائر جارح مهيب، وذئب خفي يطاردها.. وقد يكون ذئباً عنيداً. وما إن
تنقض عليها فجأة هذه الهواجس حتى تفر من أحدهم بقلمها لتتنفس عبر خطوط الأوراق، وتجاهد ارتجافه وانكساره وتتخذ من صوتها الداخلي عكازاً لتصل إلى آخر السطر.. وباعتقادي لا شيء أشد دافع عند المرأة من الألم. لذلك تجد تجربة أغلب الروائيين في العالم –وتحديدًا- في الرواية الأولى هي الكتابة عن تجاربهم أو تكون إسقاطًا لمشاعرهم. وما إن تصدر الكاتبة روايتها الأولى حتى تنمو لديها الرغبة والاستمرار والتنوع في طرح الأفكار. فالشغف يقود نحو المُنجزات دومًا. واليوم الكتابة دخلت في أفق متقدم ذلك أنّ كل معايير الزمن الحاضر سّهلت عليها ألا تكون بمعزل عن دعم الإبداع ومُخرجاته. وستكون كل الطرق مرصوفة وممهدة متى ما أفرغت ذهنها وأثرت عالمها بالواقع الخصيب، أو بالخيال المُحلّق، والمخزون اللغوي المتوافر؛ لتتصالح مع هذا الكائن العملاق الذي نُسمّيه الكتابة.
* قد يحدث للكاتب أن يعيش ويتعايش مع الأحداث التي هو بصدد كتابتها ليكون جزءًا من مؤثرات النص.. هل تتفقين مع هذه النظرية؟ ثم هل حدث معك ككاتبة وأن تعاملت مع أحد نصوصك وفق هذه الحالة؟!
- اتفق تماماً؛ فالكاتب لا يكتب بكف فارغة بل بكفٍ ثابتةٍ ناضلت وجاهدت، فما بالك حين يتحول الإنسان المضيء إلى عتمة باهرة.. وهذا شبيه بما حدث معي في بادئ تجربتي الكتابية، وهو ذاته الذي دفعني لكتابة روايتي الأولى «لو أننا أشباح» فقد كان القلم الفرصة الوحيدة المنصتة لعزلتي. وبدأ ذلك من حين قررت عائلتي الصغيرة الانتقال بنا من الرياض إلى قرية مهجورة لا تربطنا فيها أي صلة بسبب تحديات كثيرة أحدثتها الظروف المُحيطة، والمُحيط الممتد بتحدياته المُكلفة. وكان جوهر هذا التحدي بخيارين لا ثالث لهما: إما أن أترك الرياض وانتقل للعيش في قرية نائية صغيرة، أو أفصل عائلتي التي للتو تكونت فاخترت الانتقال، وتركت مدينتي التي أحُبها، تركت بيتي الذي يأويني، تركت عملي الذي يعيشني، تركت عائلتي الكبيرة الذين لا طعم لحياتي بدونهم، تركت كل التفاصيل التي ترتبط بي وارتبط بها، وانتقلت لمكان آخر لم أعهده من قبل وكأن العالم يرجع بي مئة عام إلى الوراء وكأنني خارج صندوق هذا العالم المأهول. كنت وقتها كالمسافرة التي – لاشك - وأنها في رحلتها ستكتشف أمور غريبة لم تعهدها، وكنت بذلك شيئًا فشيئًا أحاول الانسجام مع هذا التغيير في روتينه وخسائره. إلى أن بدأت أصحى من غيبوبة السائح المفتتن لأتحول بذلك إلى مقيم في سجن مؤبد بمكان لا يسكنه سوى الأشباح.. وبعدها انطفأتُ تماماً.. وكُليًّا، انطفأت بما تعنيه كلمة انطفأت. لدرجة تمنيت أنني لم أُخلق، ولم أعلم أن هذا الشعور هو الموت الحقيقي لنفسي ثم تلقائيًا لداخلي وذاتي. فكرت كيف سأواجه هذه العزلة وأتغلب عليها، كنت بحاجة ماسة للتواصل مع المجتمع للتحدث عن عزلتي لمن يستشعر ما بداخلي فقررت أن أكتب تجربتي برواية وسّخرت الأمكنة التي عشتُ فيها بالقرية إلى مصدر إلهام لتكون مكانًا لأبطالي. وكتبت بقلم ثابت واثق بكل وصف يذكر، وبكل ألم يستشعر، وبكل آهات تطلق، وتُنطق أو تُستنطق. فكيف لا تأخذني حكاية (لو أننا أشباح) التي حبست به البطلة عشرة أعوام في سطح أحد المنازل بأن أسقط بها كل ماكنت أستشعره من ضيق وعزلة. كيف لا تأخذني طفولتها بأن أسلّط الضوء على المجتمع وظلمه، كيف لا يدفعني خرَسها بأن أعدها بالبقاء ونتسلق معاً كل الجدران لننجو، حتى نكتشف أن هناك حائطا آخر ينتظرنا، حائط للفرار أو للأمل لكنه ما زال مجهولًا ولا نعرف بأي اتجاه يقع. لذلك ألوح بيدي شكراً لكل من آمن أن كتابة تجربة الكاتب كراية هي أصعب البدايات. ألوح بيد لم يتبق لي سواها أحمل بها سيرة الإصدار الأول والتجربة الأولى التي ترصّدت لها نوبة هلع مزمنة – ما تزال - ترافقني ليومنا هذا.
* مرت بطلتك في روايتك «لو أننا أشباح» بأزمات كان النص يلخصها أمام القارئ تارة ويؤجل بعضها تارة أخرى.. وسؤالي: هل يمكننا اعتبار أنّ أسلوبك الكتابي - هذا - جاء كنوع من تخفيف وطأة الحكاية على القارئ؟
- لم أتكأ على شيء معين أثناء كتابتها، ولم أقم بتأثيث أي نص. كنت أحاول أن أعبّر عن مشاعري وأحمل كل شيء معي حتى معبر النهاية، كعالم أذهب إليه حين لا يكون بمقدوري فعل أي شيء آخر. ووجدت أنني كنت أحاول تخطي السياق السائد، وأجعل من وقعه السردي قوي في النفس، وأرسم بالحروف ملامح حقيقية تصل لحد أن يكره أصحابها قراءتها؛ لذلك كتبت تحذيراً في أول صفحة بالرواية يقول: «قبل أن تقرأ وتدخل من الباب الضيق، أنت تخاطر بإيقاظ شبح في داخلك، ليعاود التنفس والنمو والبحث عن ضحاياه، وقد تكون أحدهم...».
* «فضيحة الصحراء» تجربتك السردية الثانية وقد بدت لي وكأنها بناء قائم على توظيف القضايا الاجتماعية والتاريخية بنص واحد، فهل ترين في الرواية التاريخية تأثيرًا أكبر لنقل الحدث وترسيخه بذهنية المتلقي أكبر من الاجتماعية.. لهذا استعنت بتقنية السرد التاريخي؟
- وما الرواية التاريخية سوى المجتمع الذي عاصر تلك الحقبة وما دامت الرواية تستند على النمط التخييلي ولا تتعامل مع الوثائق الرسمية، فالمجال متاح أمام الروائي للتخييل، وفي رواية « فضيحة الصحراء» ثمة حقيقة أردتُ كشفها على نحو ما؛ لذا تطرقت لذلك الزمن الماضي ونقلت أحداث ذلك المكان والحياة الاجتماعية. وأرى أن الرواية التي تتحدث عن حقبة زمنية ماضية تمنحنا رؤية شمولية وتمتلك كثيرا من المرونة وتمنح الروائي آفاقاً أوسع للحركة والتعبير.
* أين تقف اليوم الروائية عبير الرمال من عملها القادم؟ ومن وجهة نظرك ما أهمية أن يصرّح الكاتب بأعماله التي لا تزال قيد الكتابة؟
- أنا الآن في أعماق مجهولة وفي حقبة من الزمن الماضي، صوتي شاخ وأريد وقتا مستقطعا لأجلس وأستدرك الوقوف لكن لا مقعد أمامي لذا سأقف وأكمل الرواية التاريخية التي شارفت على النهايات. والعمل في رأيي يكون أكثر تأثيراً وثراءً إن حافظ كاتبه على سرية الفكرة كي لا تنتزع منه قبل أوانها، لكن أؤيد مشاركة الفكرة مع المقربين من الأصدقاء والمستشارين ممن لديهم الخبرة؛ فالحس المشترك لا يقتصر على كونه قدرة معرفية فقط، بل يتعلق بالتفكير الموسع الذي يجعل خيال الكاتب أكثر ثراءً، واستثراءً، وأكثر قدرة على خلق الإبداع؛ لذا يستطيب ليّ المقام هنا أن أشكر أكثر شخصين تركوا أثراً مميزاً في الرواية التاريخية من خلال مناقشاتي معهم، واستثرائي من خلفياتهم الواسعة حول هذا الجزء المهم في مسيرتنا السردية اليوم وهما: الدكتور عبدالحكيم العواد، والأستاذ فيصل السرحان.