رؤية - خالد الدوس:
تعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة وتشكِّل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفسارهم العقلانية عن الطبيعة البشرية والأخلاق، ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثّر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضوعية العلمية.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع.. ومن الخبراء في النظرية الاجتماعية الأستاذ الدكتور علي محمود ليله -رحمه الله- ممن أثروا هذا المجال الحيوي بالأبحاث الرصينة والمنجزات العلمية والبصمات الواضحة في أهم العلوم الاجتماعية.
ولد العالم الاجتماعي الدكتور علي محمود ليلة عام 1941م من أسرة متوسطة بمحافظة المنوفية وحفظ القرآن الكريم في مسقط رأسه قرية (زاوية رزين) وكان لذلك الحفظ في بواكير عمره الأثر البليغ على طريقة تفكيره وفي مسيرته العلمية والبحثية، وبعد أن أكمل تعليمه العام انتقل للقاهرة عام 1960 والتحق بكلية الأدب بجامعة القاهرة بقسم الجغرافيا ولم يمكث إلا شهراً حتى وجد نفسه أكثر شغفاً وميلاً وحباً لقسم علم الاجتماع ليتحول إلى دراسة علم الاجتماع وحصل على درجة ليسانس الآداب في علم الاجتماع من جامعة القاهرة عام 1964 ثم حصل على ماجستير آداب في علم الاجتماع من جامعة القاهرة في موضوع (الأسس النظرية والمنهجية للاتجاه الوظيفي) في علم الاجتماع مع دراسة ميدانية لظاهرة القرابة في مجتمع محلي بتقدير ممتاز مع توصية طبع الرسالة على نفقة الجامعة وتبادلها مع الجامعات الأجنبية عام 1973 ، ثم تلا ذلك حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة القاهرة في موضوع الأطروحة (الأسس النظرية والمنهجية لنظرية الفعل في علم الاجتماع) -تحليل نقدي- بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1980م.
وفي سيرته التعليمية وحراكه الأكاديمي مر العالم الراحل علي ليلة بمسيرة عطاء في الحياة الأكاديمية فبعد أن عمل باحثاً بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة 1964 - 1978م. كان عاملاً مهماً ونقطة تحول في تكوينه الفكري واستيعابه العلمي وتوسيع مداركه السوسيولوجية خاصة مع احتكاكه بالأب الروحي لعلم الاجتماع المصري الراحل سيد عويس -رحمه الله - مؤسس المركز القومي للبحوث الاجتماعية، وكان يتذكر دوره ودعمه له في مسيرته العلمية.. ثم انتقل وعمل معيداً بكلية الآداب -جامعة عين شمس- قسم الاجتماع عام 1978 ثم تم تعيينه أستاذاً مساعداً بقسم الاجتماع - كلية الآداب - جامعة عين شمس عام 1980. ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، جامعة فلوريدا لاستكمال كتابه المشترك حول البيروقراطية المصرية عام 1984، مما كان لذلك الأثر في علو شأنه وارتفاع سقف شهرته كباحث متمكن في النظرية الاجتماعية. خاصة بعد حصوله على (الأستاذية) خلال فترة قياسية من أثر إنتاجه العلمي والبحثي الغزير. ونيله جائزة البحوث الممتازة - من جامعة عين شمس.
كما أعير للتدريس بكلية الإنسانيات - جامعة قطر، الفترة 1-9-1984م إلى 30-8-1989م، ثم أعير للتدريس بجامعة الملك سعود - كلية الآداب - قسم الاجتماع، في الفترة من 5-10-1995 وحتى 4-9-1999م.
في حين عمل أستاذاً زائراً بجامعة الإمارات العربية المتحدة في الفترة من 6-2-1993م وحتى 16-6-1993م ليعود مجدداً ويستقر بقسم الاجتماع - كلية الآداب - جامعة عين شمس التي سبق وأن توجت عطاءه الثري بمنحه لقب (الأستاذية) عام 1990 بعد مسيرة عطاء كانت حافلة بالإسهامات البحثية والمنجزات الثرية واستمر في الجامعة حتى وفاته - رحمه الله.
وفي سياق إنتاجه العلمي ومؤلفاته التي بلغت ما يقارب 40 مؤلفاً شهدت بداياتها كتباً عن النظرية الاجتماعية، ثم تناول سيرة العديد من العلماء والرواد في علم الاجتماع بعدها التطرق إلى العديد من القضايا والمشكلات العالمية في ظل العولمة وتداعياتها على المجتمع العربي ومن أبرز هذه المؤلفات:
1- كتاب العالم الثالث، اقتصاداً ومشكلات - دار الثقافة للنشر والتوزيع - القاهرة - 1985م.
2- كتاب النظرية الاجتماعية المعاصرة - دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع - دار المعارف - الطبعة الثالثة - 1993م.
3-كتاب كارل ماركس والبحث في أصل الرأسمالية المعاصرة - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - 2000م.
4- كتاب هربرت سبنسر والتصور العضوي للمجتمع - المكتبة المصرية - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2001م.
5- كتاب روبرت ميرتون وتجديد التصور الوظيفي للمجتمع - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - 2002م.
6- برنسلاو مالينوفسكي رائد الأنثروبولجيا الوظيفية - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - 2002م.
7- فلفريدو باريتو ودورة الصفوة في إطار النظام - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2002م.
8- التيار الإسلامي بين التأييد والمعارضة، قراءة في الصحافة المصرية - مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية - كلية الآداب - جامعة القاهرة - 2002م.
9- دور المنظمات الأهلية في مكافحة الفقر - الشبكة العربية للمنظمات الأهلية - 2002م.
10- الطفل والمجتمع، التنشئة الاجتماعية وأبعاد الانتماء الاجتماعي - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2002م.
11- ماكس فيبر والبحث المضاد في أصل الرأسمالية المعاصرة - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2003م.
12- إميل دوركايم والتصور الوظيفي للمجتمع - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2003م.
13- إميل دوركايم ومشكلة النظام الاجتماعي - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثالثة - 2003م.
14- رادكليف براون رائد الانثروبولوجيا الاجتماعية - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2003م.
15- تالكوت بارسونز وتصور النسق الاجتماعي - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2003م.
16- الشباب العربي وإرادة التغيير من داخل التراث - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2004م.
17- الشباب والمجتمع، أبعاد الاتصال والانفصال - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - 2004م.
18- بناء النظرية الاجتماعية - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - الطبعة الثانية - 2005م.
19- النظرية الوظيفية وتحليل المجتمع - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - 2006م.
20- القرابة في ريف مصر، دراسة لقرية مصرية - المكتبة المصرية للطباعة والنشر - الإسكندرية - 2006م.
21- النظام العربي المعاصر متغيرات الإصلاح وحدوده - دار الوافي للطباعة والنشر - المعادي - مارس. وغيرها من المؤلفات التي ازدانت بها مكتبة علم الاجتماع وتراثه الأصيل.
كان لتخصصه الدقيق (النظرية الاجتماعية) الأثر الكبير أن يكتب ويؤلف في جميع فروع علم الاجتماع، وكان -رحمه الله- صاحب مقولة يرددها (من يكتب في النظرية يستطيع أن يكتب في جميع فروع علم الاجتماع)، ولذلك كان العالم الراحل د. علي ليلة بتواضعه الجم وخلقه العالي يستحث طلابه وتلاميذه على العمل في النظرية لأنها حجز الزاوية في علم الاجتماع وميادينه، كما اهتم رائد علم اجتماع النظرية بالترجمة فقد ترجم خمسة كتب مهمة وهي كتاب علم الاجتماع والنقد الاجتماعي عام 1981 بالاشتراك مع د. محمد الجوهري والسيد الحسيني، وكتاب الاقتصاد والمجتمع في العالم الثالث عام 1982 بالاشتراك مع د. محمد الجوهري واحمد زايد، وكتاب النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع: الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية وقام بترجمته بمفرده عام 1989 كما ترجم بمفرده الكتاب المهم «الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي» عام 2005، وكتاب النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع بالاشتراك مع السيد يسن عام 1992م.
ونظراً للإنتاج الغزير (بحثاً وعلماً وتطبيقاً وتأليفاً ونقداً) للعالم في النظرية الاجتماعية د. علي ليلة نوقشت إسهاماته في العديد من الجامعات العالمية بعد أن قدَّم وخلال سيرته العلمية الثرية (مائة وخمسة عشر) بحثاً في مؤتمرات محلية ودولية طاف من خلالها أرجاء العالم، كان تفكيره يتسم بالمرونة الفكرية رغم أنه كان وظيفياً يميل في مؤلفاته الأخيرة التي اتخذت الطابع والمنهج النقدي إلا أنه كان يؤكد على أهمية التوازن في الجانب العلمي بين الناحية الدينية والاجتماعية. ولا غرو في ذلك فقد جمع العالم الراحل بين النزعة العلمية والإنسانية والدينية التي انعكست على شخصيته العلمية الراقية فكراً وعلماً وقيماً وأدباً.
وفي آخر أيامه أصيب -رحمه الله - بمرض وعندما اشتد عليه كان يحمل هم طلابه فكان يغيّر لجان المناقشات العلمية ويطلب حذف اسمه حتى لا يتعطَّل الطالب، وفي الوقت ذاته كان يطلب نقل إشرافه إلى أساتذة آخرين حتى لا يتسبب في تعطيل أحد.. لأنه كان يؤمن بقيمة الإنسان واحترامه.
رحل عالمنا الاجتماعي الفذ البروفيسور علي محمود ليلة في يوم 28 فبراير عام 2017 وتم نقل جثمانه إلى مسقط رأسه قرية زاوية رزين في المنوفية.. رحل عن عمر يناهز 76 عاماً بعد أن ترك إسهامات علمية ومنجزات بحثية غنية في مكتبة علم الاجتماع وتراثه الأصيل.