تلون الحرباء بلون البيئة من أجل اصدياد الفرائس أولحماية نفسها من الافتراس هي حقيقة يعلمها معظم الناس. بيد أن الحرباء إذا شاخت تقل قابليتها للتلون! وبالتالي إما أن تموت من الجوع أو أن تموت بالافتراس.
أول مواجهة جادة قابلتها «الحرباء الرأسمالية» كانت في منتصف القرن التاسع عشر بعد انكشاف «اللون» الحقيقي» لها؛ حيث فقدت الشعوب الأوروبية ثقتها بالتزام تلك «الحرباء» بمبادئ الثورة؛ التي نادى بها فلاسفة الثورة الفرنسية؛ مثل روسو ومونتسكيو وجون لوك وغيرهم. فاندلعت ضد الحرباء احتجاجات في أوروبا كلها ضد النهج الرأسمالي! وكانت ذروة تلك الاحتجاجات هو طرد الحرباء الفرنسية واستيلاء العمال على قصر الباستيل، والتي سميت بكمونة باريس. ولكن الجيش والأجهزة القمعية أسقطت الكمونة خلال سبعين يوما. ثم أصبح القمع والعنف وليس «صناديق الاقتراع» هو الوسيلة المعتمدة في أوروبا كلها!.
تدرك «الحرباء» تماما أن قمع المسحوقين لن يدوم طويلاً، وعلاوة على ذلك دخلت في أزمة اقتصادية «حرباوية» شديدة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. فقررت «الحرباء» تصدير أزمتها الداخلية للخارج، فاندلعت الحرب العالمية الأولى في 1914. ولم تدخل «روسيا» القيصرية تلك الحرب بسبب تفاقم أزمتها الداخلية! ولذلك انتصرت بها الثورة البلشفية في 1917. وهذا الأمر له دلالتان أساسيتان هما:
أولاً: أن تصدير الأزمة «الحرباوية» للخارج لم يقض على الزخم المناهض للرأسمال.
ثانياً: أن لون «الحرباء» الجديد، والمتمثل بأن الرأسمالية تنشر «الحضارة» نجح مؤقتاً، وخاصة في المستعمرات، ولكن الاحتجاجات اندلعت مرة أخرى في أوروبا بعد الأزمة الاقتصادية في عشرينيات القرن الماضي!.
تلونت الحرباء بلون اقتصادي هذه المرة! فأوهمت الجزء الأكبر من الرأي العام الأوروبي بالنظرية الكنزية؛ التي بشرت بـ «السوق الحرة»؛ والتي ستصحح الأخطاء الرأسمالية بنفسها؛ وبدون تدخل! أما من لا تنطلي عليه الحيلة «الملونة» الجديدة، فله الموت بواسطة الفاشية أو النازية أو العنصرية أو الإبادة الجماعية أو ما شاكل ذلك! ولكن تلك الأدوات القمعية انقلبت ضد الحرباء ذاتها. فإذا كنت وحشاً وصنعت وحشاً آخر تريد التستر من ورائه؛ فلابد أن تعي بأن الوحوش ليس لها قيم؛ وهي غالباً ما تقتل صاحبها!
لم ينقذ الحرباء في الحرب العالمية الثانية من الوحش الذي صنعته بيديها، إلا ثورة المسحوقين في «روسيا». ولن أتحدث هنا عما فعلته الحرباء إبان ما يسمى بالحرب الباردة تجاه «روسيا» والعالم أجمع بعد الحرب؛ ولكن أعمى بصر وبصيرة من لا يرى أن الحرباء شاخت؛ ولم يعد لديها امكانية للتلون؛ فتصدير أزمة عشرينيات القرن الـ 21؛ التي بدأت بأزمة الرهن العقاري في 2008؛ لا يتم تصديرها بالحرب بالوكالة في أوكرانيا!.
المثير للسخرية أيضاً أن الحرباء قسمت العالم إبان الحرب الباردة إلى عالمين؛ أحدهما «حر»؛ وآخر «غير حر» أو «راديكالي»؛ ثم تقول بكل صلافة: من ليس معي فهو ضدي؛ أين حريتكم إذن؟
ما يثير الدهشة حقا هو أنه بالرغم من الخسائر التي تتكبدها الحرباء العجوز كل يوم؛ بل كل ساعة ودقيقة؛ جراء الحرب الأوكرانية؛ إلا أنها مستمرة بصب الزيت على النار؛ والتستر بـ»ألوان» من الأكاذيب القديمة؛ التي لم يعد لها مكان في سوق الوعي الجماهيري! فمن المعروف أن الحرباء الرأسمالية تتمسك بالبراغماتية؛ وأنها لا تقدم على شيء إلا محسوباً من زواياه كافة؛ فما الذي يجعلها تتخلى عن براغماتيتها تلك؛ وتستمر رغماً عن الخسائر؟
لا يوجد إلا تفسير واحد لهذا المشهد: وهو أن الحرباء فقدت قدرتها على التلون؛ وأنها تستجدي حلفاءها وأصدقاءها لـ»الانتحار» نيابة عنها؛ فهل تدرك تلك الحرباء أن انتحار أوروبا سيؤدي إلى انهيار النظام الرأسمالي كله؟ وأن الأجدر لها أن تكف عن «العنجهية والمكابرة» والعودة إلى البراغماتية لحفظ ماء الوجه؟
يتحدث بعض المراقبين عن احتمال حرب نووية تقضي عل الحياة على الكوكب. ومن بين هؤلاء المفكر والفيلسوف الأمريكي الكبير «نعوم تشومسكي»؛ ولكن هل تستطيع الحرباء الإقدام على مثل هذه الخطوة وهي التي تستجدي الآخرين للانتحار نيابة عنها؟
** **
- عادل العلي