د. محمد بن إبراهيم الملحم
اليوم أحاول أن أخلص إلى استنتاجات مهمة حول ما قدمته في الحلقات السابقة بشأن التعليم المنزلي وأهميته لإيجاد «العالِم» والمتفوق والذين يمكن أن يصنعوا فرقًا لحياتنا وربما للبشرية أيضًا، فهو تعليمٌ يتسم بالحرية ويطلق قدرات الطالب وإمكاناته اللا محدودة لما يقدمه له من نمط متناسب مع ميوله وطبيعته بعيدًا عن الجو المؤسسي الرسمي الذي تتسم به المدرسة والذي قد يقمع التفكير أو يجهض الإبداع وربما ينمط الأسلوب ويحد من القدرات نتيجة للسلوك الرسمي وحدود المناهج وممارسات الاختبارات والواجبات. وهو كما وضحت أخيرًا لا يعمل بفعالية فقط لأنه تعليم «منزلي» ولكن له شروطه ومتطلباته مماثلاً في ذلك لأي ممارسة أو منهج ينتج عنهما إبداع أو جودة وتفوق، وأهم الشروط إيمان من يقوم بالتدريس سواء من الوالدين أو من ينوب عنهما بأهمية هذا اللون من التعليم وقيمته النوعية وفروقه عن التعليم المدرسي، ويليه وعيهم بالجوانب التربوية في التدريس وتمكنهم من المعرفة التي يقدمونها للمتعلم أو المتعلمة، ويساند ذلك توفير ما يحتاج إليه التعلم والإبداع من مواد ومصادر ودعم الطالب ورعايته وتشجيعه، ودون شك فإن دمج الطالب في مجموعات رفاق يتفاعل معهم اجتماعيًا في وقت الفراغ هو ضرورة مهمة لطالب التعليم المنزلي لكي يعوضه ذلك عما كان ستقدمه له المدرسة لو التحق فيها وذلك لتفوقها في جانب الدمج الاجتماعي للطالب وغمره في محيط الأقران مما ينعكس على نمو شخصيته اجتماعيًا ووعيه ثقافيًا، وهذا الجانب يمكن تعويضه بسهولة كما وضحت من خلال تكوين جماعة رفاق في أوقات الفراغ، وليس من نافلة القول أن نشير إلى أن التعليم المنزلي في أمريكا وعدد من الدول ينظم هذا الموضوع من خلال اتصال الوالدين الذين يدرسون أبناءهم بهذه الطريقة وتكوينهم مجموعات فيما بينهم لجدولة لقاءات أبنائهم بعضهم بعضًا.
ذكرت سابقًا أن الدول التي لم تمنع التعليم المنزلي بشكل صريح يلجأ الوالدان فيها إلى تسجيل أبنائهم صوريًا في مدرسة حكومية ليتمكنوا من حضور الاختبارات بينما التدريس يتم في المنزل، وبحسب مراجعاتي لما نشره بعض الآباء والأمهات فإنه يمارس في الدول العربية بهذه الطريقة: ففي مصر يتم بشكل مباشر نتيجة تراجع كبير في جدية المدرسة الحكومية في متابعة الغياب، وفي السعودية اضطرت إحدى الأمهات التي سجلت تجربتها إلى أن تتنازل وتجعل أولادها يدرسون المرحلة الابتدائية في المدرسة ثم طبقت معهم التعليم المنزلي ابتداءً من المرحلة المتوسطة وسبب ذلك أن التعليم الرسمي السعودي يعترف بطلاب المنازل من المرحلة المتوسطة فما فوق فقط ويختبر هؤلاء الطلاب ويمنحهم شهادات رسمية لا تختلف عما يحصل عليه أقرانهم ممن يدرسون حضوريًا في المدارس، أما المرحلة الابتدائية فلا يمكن أن تكون إلا من خلال الدراسة الحضورية في المدرسة، ومع أن التعليم ليس إلزاميًا في السعودية إلا أن الطفل الذي سيدرس المرحلة الابتدائية عبر التعليم المنزلي لن يحصل على شهادة الابتدائية مطلقًا وهذا سيترتب عليه حرمانه من بقية مراحل التعليم. والواقع أن هذه إشكالية ينبغي للتعليم السعودي أن ينظر فيها عاجلاً فكثيرٌ من دول العالم المتقدم أعطت هذا التعليم قيمته واحترامه وقدرت قيمته الكبرى في صناعة العلماء وتخريج المتميزين فقننت له القوانين والنظم التي تسهل تطبيقه، ولاسيما أنه للدول التي بها التعليم مجاني يوفر في ميزانيتها كثيرًا من الصرف على هذه الفئة من الطلاب والتي سيتولى تدريسهم أهلهم وسيتيحون مقعدًا لغيرهم. هذه الدول لم تهرب من مسؤولية سن الأنظمة الحاكمة لهذا النوع ومتابعة مطبقيه والتأكد من جودة عملهم وملاءمته لمتطلبات التنمية بل أعطت لهذا الجانب ما يستحقه من الاهتمام والبذل لما يترتب عليه من الفوائد الكثيرة سواء من الناحية الكمية على المصاريف الحكومية كما أسلفت أو من الناحية النوعية في الحصول على خريجين سيكون أثرهم على العائد الوطني الاقتصادي والاجتماعي والعلمي كبيرًا جدًا لما يتوقع من نوعية التعليم المتميز الذي تلقوه.