محمد سليمان العنقري
مرور شهرين على اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا فتح الباب على منعطفات مفصلية في المشهد الأوروبي والدولي عموماً فتبعات هذه الأزمة متلاحقة، فإلى جانب ما يحدث على أرض المعركة من مواجهات أدت لهروب ملايين الأوكرانيين من مدنهم لدول مجاورة إلا أن التداعيات الاقتصادية كان وقعها على الاقتصاد العالمي كبيراً من حيث ارتفاع نسبة التضخم عالمياً بسبب النقص في إمدادات العديد من السلع إضافة لبدء بعض دول أوروبا فرض حظر على الغاز والنفط من روسيا مما أدى لارتفاع أسعارها لتُضاف عوامل جديدة ضاغطة على الاقتصاد العالمي من حيث تراجع سلاسل الإمداد بما يُضاف لتأثيرات جائحة كورونا التي ما زالت قائمة كتصنيف من قبل منظمة الصحة العالمية فالحرب مستمرة ولا يبدو بالأفق أي فرص لحل سياسي لها مما أدى لأن يحذر صندوق النقد الدولي من أن استمرارها سيكون له عواقب سلبية على العالم اقتصادياً، كما أن البنك المركزي الأوروبي يعتبر أن الحرب رفعت التضخم وتسببت بتراجع النمو الاقتصادي في دول الاتحاد الأوروبي.
لكن ما قام به الغرب بقيادة أميركا من فرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا قاربت 6000 عقوبة هل مهد لقطيعة لا رجعة فيها مع روسيا من قبل أكبر تكتل اقتصادي عالمي يمثِّل ما يفوق 60 بالمائة من الاقتصاد العالمي وكيف سيكون حال أوروبا وروسيا بعد هذه الحرب، فجميع الآراء في الغرب تكاد تكون متفقة أن أوروبا بعد هذه الحرب ليست كما قبلها فدول الحياد مثل السويد وفنلندا تنوي الانضمام لحلف الناتو مما يعني أن الإبحار العسكري بالشمال الأوروبي لن يكون يسيراً لروسيا فهي ستمر من مناطق حلف الناتو.
ويمكن للحلف أن يحاصر روسيا من هذه المنطقة المهمة لأساطيلها العسكرية والتجارية كما أن التخلي التدريجي عن النفط والغاز الروسيين أصبح توجهاً لا رجعة فيه من قبل الأوروبيين وهم أكبر سوق للغاز الروسي مما يعني أيضاً أن التجارة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا ستتقلص بنسب عالية، حيث وصلت لحوالي 300 مليار دولار العام الماضي والأوروبيين هم أكبر شريك تحاري لموسكو وتشير بعض الإحصاءات التي تقوم بها جهات دولية مختصة بشؤون الطاقة أن إنتاج النفط الروسي تقلّص بالفعل فبحسب وكالة إنتر فاكس فإن حجم التراجع بالإنتاج وصل لنسبة 7.5 بالمائة في شهر أبريل الحالي بسبب العقوبات الغربية ورغم التوقع بأن الأضرار لن تكون محدودة على اقتصاد بعض الدول الأوروبية التي تعتمد بنسب كبيرة على إمدادات الطاقة من روسيا إلا أن القرار بالتخلي عنها قد اتخذ فعلياً على الرغم من كل التبعات السلبية القصيرة الأمد له فألمانيا أكبر دولة من حيث حجم الاقتصاد في أوروبا تتوقّع أنه في حال توقف تصدير الغاز الروسي لها بشكل مفاجئ فإن خسارة اقتصادها ستصل إلى 238 مليار دولار في العام الحالي والقادم أي ما يعادل 6.5 من ناتجها الإجمالي بينما تتوقَّع أكبر مراكز الدراسات الاقتصادية فيها أن ينخفض النمو الاقتصادي إلى 2.7 بالمائة من حوالي 4.5 لهذا العام بينما سيتخطى التضخم حاجز 7 بالمائة كأعلى معدل منذ أكثر من 40 عاماً وستتأثر كذلك دول أخرى من بينها إيطاليا لكن في المديين المتوسط والبعيد ستتمكن أوروبا من تجاوز هذه الأزمة مع التوجه لمصادر طاقة من دول عديدة إلا أن روسيا ستبقى الخاسر الأكبر لأهم سوق لديها وهو أوروبا .
إلا أن هناك مشهداً يتشكل على الساحة الدولية والذي ستحاول روسيا أن يكون بديلاً يعوّضها ما ستفقده في السوق الأوروبي رغم تأكيداتها بأنها تحرص على هذا السوق وتحاول أن تفصل بين الأزمة مع أوكرانيا والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي إلا أنها لم تفلح في جل محاولاتها، فالتباينات بالمواقف الأوروبية حيال حظر إمدادات الطاقة من روسيا يتركز على المدى القصير فقط حتى يتمكنوا من التعويض من دول أخرى كأميركا وكندا والنرويج ودول الشرق الأوسط وأستراليا، أي أن إخراج روسيا من دائرة العلاقة التجارية أصبح هدفاً غربياً لن يتم التراجع عنه إلا بشروط تزداد صعوبة مع إطالة أمد الأزمة، فروسيا تسعى لأن تكون الأسواق الآسيوية وعلى رأسها السوقان الصيني والهندي هما بديل سوق أوروبا لها فتجارتها مع الصين تصل لحدود 140 مليار دولار وتسعى لمضاعفتها وكذلك مع الهند، بالإضافة لوجودها في عدة دول إفريقية مما يمكنها من فتح أسواق لها في القارة الأسرع والأكبر نمواً اقتصادياً حسب التوقعات وذلك حتى العام 2040، إضافة لعلاقاتها مع دول أميركا اللاتينية، فروسيا تصدِّر أهم السلع والموارد الطبيعية بالعالم، بدايةً من النفط والغاز وصولاً للمعادن وكذلك السلع الغذائية الأساسية بالعالم كالقمح والحبوب، فالمشهد الدولي يشير إلى أن تصبح المنافسة الاقتصادية والتجارية على آسيا وإفريقيا واسعة وموازين المصالح والعلاقات ستتغيّر جذرياً والانقسام الدولي سيترسّخ لعقود طويلة مما سيهدّد دور المنظمات الدولية ويؤثّر على وزنها وأهميتها في ضبط العلاقات بين الدول، فالغرب بحكم سيطرته عليها يهدد روسيا من خلالها وبالمقابل فإن ما ستشهده الساحة من تكتلات جديدة ستكون أغلبها رافضة لهذه الهيمنة الغربية لأنها تخشى أن تصبح هيمنتهم على العالم تقوم من خلال أسلحة العقوبات والتأثير من خلال المنظمات الدولية المعنية بالشأن الاقتصادي والتجاري كما يفعلون مع روسيا حالياً.
المراكب بين الغرب يبدو أنها أحرقت وما تبقى منها لا يؤهل لتجاوز تبعات هذه الأزمة، وأصبح هدف الغرب عزل ونبذ روسيا، والتي ستعيد حساباتها واستخدام وزنها العسكري والسياسي والاقتصادي في إعادة التموضع وترتيب علاقات جديدة وتحالفات ستؤسس لمواجهات مستقبلية على كافة الأصعدة بينهم وقد تهدم كثيراً مما هو قائم من آليات للعلاقات الدولية وتعيد هيكلة منظمات دولية رئيسية وسيتم اعتماد نهج جديد في التعاملات المالية ما بين هذه القوى الكبرى، مما يعني أن العالم مقبل على تغيرات جذرية ستلغي معها الكثير مما هو قائم الآن من حيث الوزن أو التأثير ومن أهمها عملة التجارة الدولية ونظام الحوالات المالية، وهو ما سينتقل بتأثيره لمراحل مواجهة وجودية بينهم.