د.نضير الخزرجي
من نافلة القول إن البساطة أمر محبذ في مكان ومرفوض في مكان آخر، والمرء وتقديره للموقف، وإذا تناهى في البساطة حد السذاجة، وصارت له سجية وعادة، كان أدعى إلى الشفقة منه إلى الاحترام، وكان أقرب إلى البلاهة المذمومة منه إلى البساطة المحمودة، ولا ينظر الناس إليه نظرة تقدير، وإذا أحاطوه بنظرة حسنة فهي نظرة تستبطن الازدراء والأسى.
وربما احتاج المرء في بعض المواقف إلى تقمص السذاجة واستحضارها في قولة أو فعل وتغييب كامل أو شبه كامل للعقلانية، وذلك من أجل الخروج من مخمصة المواقف الحرجة بأقل الخسائر، وهنا يستحضرني موقف حصل معي في السنة الأخيرة من الدراسة الإعدادية سنة 1979م، في ذلك الحين كنت أدرس في إعدادية القدس الواقعة في حي العباس شمال شرق مسقط رأسي كربلاء، وحينها كنت أسكن وسط المدينة في منزل الجد، وكان الذهاب إلى الإعدادية والإياب يكلفني المشي إلى ساحة باب بغداد (العلوة) وركوب سيارة الأجرة إلى حي العباس، ولكن في العام نفسه انتقل سكننا إلى حي الأسرة التعلمية في منزل الأخ الأكبر الفقيد سمير الخزرجي الواقع جنوب شرق المدينة، وفي هذه الحالة اضطرني بعد المسافة إلى شراء عجلة هوائية استقلها من أقصى المدينة الى دارنا الجد الأكبر ومنها سيراً على الأقدام إلى موقف سيارات الأجرة ومنها إلى المدرسة، وبقيت على هذا المنوال مدة من الزمن، أرغمتني على التقدم بطلب النقل إلى إعدادية كربلاء الواقعة على طرف جنوب المدينة والتي هي أقرب إلى المنزل الجديد.
من هنا ذهبت إلى إعدادية كربلاء لألتقي بمديرها عارضاً عليه الطلب متشفعاً بشقيقي الأستاذ سمير الخزرجي الذي كان أستاذ اللغة العربية في الإعدادية نفسها وكان قد رحل عن الحياة للتو بمرض سرطان الكبد في 11-10-1979م، فعندما طرقت الباب ودخلت كانت المفاجأة كبيرة ومفزعة لي، لأنني اكتشفت أنني أقف أمام الرجل الذي قدم قبل أيام قلائل في 15-10-1979م إلى إعداديتنا مع مسؤول شؤون الطلبة في منظمة حزب البعث ورئيس الاتحاد الوطني للطلبة (حزب البعث) ورابعهم مدير إعدادية القدس حيث راحوا جميعهم يستجوبونني كمعارض سياسي للنظام الحاكم، ويكيلون التهم مصحوبة بالشتائم الشوارعية، وكنت أتوقع بعد هذا اللقاء أن يلقى القبض علي في أي حين، ولكن ما لم أكن أتوقعه أن أقدم طلب النقل إلى الرجل نفسه الذي حاصرني بأسئلته الاستفزازية، وقفت أمامه مع شعور مضطرب بأني وقعت في مصيدته ثانية، وهنا كان علي أن ألبس قميص البساطة المفرطة وأتحمل فظاظته وأسئلته التي انهالت علي، ومنها سؤاله عن الخلية التي أعمل معها ضمن التنظيم السياسي المعارض للسلطة، وكان من سذاجتي المفتعلة أن استحضرت موضوع الخلية في دروس الأحياء والحيوان والنبات الذي ندرسها في القسم العلمي، فبدأت أشرح له الخلية وما فيها من نواة ومواد ودورها في أنسجة الإنسان والحيوان والنبات، فلم يطق صبراً لجوابي ونهرني بشدة قائلاً: أسألك عن الخلية التنظيمية التي تعمل بها وأعضائها، أخبرنا عنها وصدَّقني وبشرفي سوف أساعدك على الانتقال ولا أخبر السلطات بذلك كرامةً لزميلنا شقيقك الراحل، ولكن من جانبي واصلت الحديث عن الخلية والأنسجة وببراءة!
وبالطبع لم يوافق على نقلي وأراد اصطحابي إلى منظمة الحزب الواقعة خلف الإعدادية، ولكنني زغت من بين يديه، ولكن ما حصل أنه تم اعتقالي من داخل الصف يوم 11-11-1979م على يد مجموعة من مديرية أمن كربلاء أي بعد فترة قصيرة من ذلك اللقاء وحديث الخلية.
قفزت هذه الحادثة إلى ذهني وأنا أتابع باهتمام كتاب «استخدامات شعرية» للمحقق الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر نهاية العام 2021م عن بيت العلم للنابهين في 191 صفحة من القطع الوزيري مع تقديم وتقريظ الدكتور مهند مصطفى جمال الدين، وما تناول الكتاب من استخدام الشعر في مجال تقفية العلوم المختلفة منها علم الحيوان وعلم النبات.
وعاء الشعر التعليمي
لكل مصطلح في الأدب العربي منطوقه ومفهومه ودلالته، وإذا كان كتاب «استخدامات شعرية» هو جديد الأديب الكرباسي الذي جمع فيه بين النثر والنظم، فإنه سبقه بنظيرين من المؤلفات في هذا السياق، أولهما «الأغراض الشعرية» وثانيهما «ألوان شعرية» وقد صدرا سنة 2019م، ففي الأغراض تابع بالتمهيد شرحاً وبشواهده نثراً شعراً ما تم نظمه في الزهد والحكمة والشكوى والفخر والأخلاق والهجاء والمدح والغزل والحنين والوفاء والعتاب والاعتذار والنهضة والرثاء والتشبيب والرجاء والخيال والوصف والخمر والخيانة والطرد والفكاهة، وما لا حصر لها من الأغراض، وأما في الألوان فإنه تابع أيضاً بالتمهيد شرحاً وبشواهده نثراً وشعراً ما تم نظمه في القصيدة العمودية والقصيدة النثرية (الحر)، والأحاديات من المشطور إلى المعشَّر، والرباعي وإخوانه، والتخميس وإخوانه.
ولعلَّ العلامة الفارقة في الاستخدامات الشعرية قدرته على توظيف القافية في كل علم من العلوم العقلية والنقلية وكل علم مستحدث، وبتعبير المؤلف في المقدمة: (إنَّ المقصود من هذا الديوان بيان أنَّ الشعر له قابلية للولوج به في جميع العلوم وإقحامه في المعارف كافة، حاله حال النثر الذي هو مطيَّة المؤلفين والخطباء).
وإذا كان النثر مطية النثر تحريراً وشفاهاً، فإنَّ بحر الرجز هو مطية هذا النوع من النظم الذي يضع العلم وقواعده في قالب شعري سهل الحفظ، وبتعبير المقدّم الدكتور مهند جمال الدين: (ولأنَّ الثقافة العربية ثقافة شفاهية تعتمد على حفظ العلم في الصدور، الذي يحتاج إلى آلية خاصة لا يمنحها إلا الشعر، لكونه مؤسَّسا على الإيقاع المتكرر في وحدات صوتية متساوية في الوزن، وهذه الميزة هي التي دفعت إلى نظم العلوم شعراً ليسهل حفظها وتداولها وانتشارها بين المتعلمين، فظهرت الأراجيز النحوية والفقهية والفلسفية... فصار الوعاء الذي ضمَّ الشعر التعليمي لسهولة النظم فيه وسهولة حفظه في الصدور).
ومن شواهد الاستخدامات الشعرية في صروف العلوم والمعارف، ما نظمه في «الأخلاق والحكم» التابعي أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 688م، وما نظمه في «علم الكيمياء» الشيخ ذو النون المصري الإخيمي المتوفى سنة 861م، وما نظمه في «علم الطب» ابن سينا المتوفى سنة 1037م، وما نظمه في «علم النحو» ابن مالك الأندلسي المتوفى سنة 1203م، وما نظمه في «علم العَروض» الشيخ صفي الدين الحلي المتوفى سنة 1339م، وما نظمه في «علم الجبر» الشيخ ابن الهائم المصري المتوفى سنة 1412م، وما نظمه في «علم الرياضيات» العلامة ابن غازي المكناسي الفاسي المتوفى سنة 1504م، وما نظمه في «علم الدراية» العلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 1505م، وما نظمه في «علم النفس» الشيخ محمد الخروبي الليبي المتوفى سنة 1556م، وما نظمه في «علم التفسير» الشيخ عبد العزيز الزمزمي المتوفى سنة 1569م، وما نظمه في «علم الأصول» الشيخ يحيى العمريطي المتوفى بعد سنة 1581م، وما نظمه في «علم الهندسة» الشيخ محمد الحر العاملي المتوفى سنة 1693م، وما نظمه في «علم الفقه» السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1797م، وأرجوزته الأخرى في «علم الرجال»، وما نظمه في «علم الكلام» الشيخ إبراهيم الطيبي المتوفى سنة 1800م، وما نظمه في «علم الفلسفة» الشيخ هادي السبزواري المتوفى سنة 1873م، وما نظمه في «علم الصرف» العلامة محمد عليش المالكي المتوفى سنة 1882م، وما نظمه في «علم المنطق» السيد أبو بكر الحسيني المتوفى سنة 1922م، وما نظمه في «تاريخ المدن» الشيخ محمد طاهر السماوي المتوفى سنة 1950م في ارجوزته الشهيرة «مجالي اللطف» في بيان تاريخ مدينة كربلاء، وما نظمه في «علم الفلك» السيد محمد الشاطري المتوفى سنة 2001م، وأمثال ذلك من المنظومات العلمية والأرجوزات التعليمية.
قوافي العلوم
أراد المؤلف كما يخبرنا المقدِّم والمقرِّظ: (إثبات قدرة الشعر وطواعيته لاستيعاب مختلف العلوم والمعارف، بما يملكه من آليات تجعل اللغة قادرة على التماهي مع مصطلحات قد تبدو بعيدة عن الكتابة الشعرية)، ولأن الشعر من خيول الأدب العربي فإن الدكتور جمال الدين ركب جواد القريظ قائلاً من بحر الرمل:
يا كتاباً خُضِّبت أوراقُه
بمزيج العلم والشعر الزلال
وبدا من ألقٍ مبتهجاً
مثل بدرٍ في جمالٍ وجلال
صاغه فوق الثريّا فارسٌ
له في الفكر فعالٌ ومقال
ولكن المقدِّم يعود ليؤكد بأن تجربة الكرباسي في الاستخدامات الشعرية: (تعد محاولة مختلفة عن السائد في الزمن المعاصر، فقد نجح الشيخ في توظيف فاعلية الشعر الموسيقية لجمع شتات معارف وعلوم متخصصة)، ولهذا فإنَّ المؤلف أردف من نظمه مع الشروحات 26 أرجوزة في بيان ماهية كل علم من العلوم وهي: التفسير، الكلام، الأخلاق، الفقه، الأصول، الدراية، الرجال، اللغة، الصَّرف، النَّحْو، العَروض، الفلسفة، المنطق، الطب، الصيدلة، الكيمياء، الفيزياء، الفلك، الحساب، الهندسة، الجبر، التاريخ، الجغرافيا، الحيوان، النبات، وعلم النفس.
فمن قصيدته في الطب:
الطبُّ علمٌ راجحٌ تعليمُهْ
يشفي الأنام المبتغى تأميمُهْ
أصلان فيه واجبٌ لا ثالثُ
تشخيصُ سُقْمٍ حيثُ هذا نابثُ
ثانيهما توصيفُ شيءٍ للشفا
طِبقاً لما فيه بدا عهدُ الوفا
ومن نظمه في علم الصيدلة:
علمُ الدواء المُبتغى في الصيدلَةْ
تحضيرُهُ بل كشفُهُ ذا مسبلَةْ
إذ مصدرُ الطب الذي يُستخدمُ
من نبتةٍ يُستحضَرُ المُستلهَمُ
وفي علم الفلك قال الناظم:
البحثُ في الأجرام ذا علمُ الفلَكْ
كلٌّ له دربٌ به مسعًى سلَكْ
الشمسُ تجري حولها كلُّ النُّجُمْ
ما كوكبُ إلاّ ويسري في القَتَمْ
وفي علم الحيوان أفادنا أنَّه:
علمٌ لذي الأحياء والحيوان ذا
يحكي لنا عن أصلها فيما إذا
كشفٌ بدا في نوعها أو فعلها
وانظُر إلى تكوينها في أصلها
وفي الكيمياء أنبأنا أنَّ:
الكيميا علمٌ قديمٌ حاضِرُ
أصلُ أصيلٍ خالدٌ بلْ قاهِرُ
عن عنصرٍ نحكي وما فيه تجدْ
خاصيَّةُ تركيبه في ما يُحَدْ
ولا يخفى أنَّ المحرركما أراد أن يثبت قدرة الناظم والشاعر على وضع العلم وأسسه في قالب شعري له موسيقاه وتموجاته يسهِّل على طالب العلم أو الهاوي حفظه، فإنه أثبت وكلُّ من نظم من قبل من أرجوزات ومنظومات تعليمية وتربوية، قدرة المفردة العربية على الانصهار في أية بوتقة علمية ومعرفية قديمة أو حديثة بما يمهد لصائغ الكلمة الأدبية قولبتها في أية أرجوزة أو منظومة مكللة بزينة لآلئ القوافي الدافقة.
** **
الرأي الآخر للدراسات - لندن