عبده الأسمري
لم تكن تلك «الصورة» الأولى التي توشحت شهاداتنا الابتدائية إلا وثيقة مثلى ننكص إليها فنقرأ ملامحنا ونتمعن فيها فنستقرئ مطامحنا.. مرت الأعوام وتغيرت الملامح وتبدل «المشهد» الأول، ومضت الأيام إلا أننا دائماً ما نبحث عن صور «الطفولة» المسجوعة بالبراءة والمشفوعة بالعفوية..
تلك «الذكريات» التي تهاجمنا تارة وتغادرنا تارات أخرى فنتشبث بأفراح «الصغر» ونتمرد على مواقف «الكبر» تفيض عيوننا من الدمع في استذكار الراحلين وتنهض أنفسنا من الوجع أمام اعتبار العابرين.. نغرق في «ندم» عابر ونيأس أمام «عدم» أزلي.. تهزمنا «العبرات» وتجبرنا «الاعتبارات «فنظل في كر وفر وسط ميدان نعيشه ونعايشه ما دمنا على قيد الحياة..
تجبرنا «الذاكرة» على الانهزام لها والرضوخ لتداعياتها والإذعان لتفاصيلها.. نضطر أحياناً إلى «اللوذ» بماض جميل نكاية في «حاضر يجثم على النفس باحثين عن «النقاء» ولاهثين وراء «الصفاء» نحاول أن نستعيد «وجوه» الآباء التي كانت وستظل محفلاً للفرح وموطناً للقوة ومنبعاً للاعتزاز.. نركض خلف «ذكريات» طفولية كنا فيها ننتظر المطر ونصنع السطر لنكتب أحلامنا على «جدران» القرى بأصابع بريئة لا تخدش جمال المكان..
تلك الأحلام الوردية التي كتبناها في دفاترنا الصغيرة التي كنا نخبئها عن معلمينا الأجلاء ظلت «مصادر» للأمنيات التي تحققت بمجرد ضحكات «صباحية» أمطرنا بها مواسم الاختبارات و»ابتسامات» نهارية عطرنا بها مراسم الإجازات..
تلك الوجوه والأماكن والأزمنة التي ترابطت في «مواقف» وارتبطت في «وقفات» استقرت في عمق «الاستقراء» وظلت في أفق «الانتقاء» وفق تفاصيلها التي تتأرجح بين «التذكر» و»التنكر»..
تبدل الزمان وتغير الحال وتعددت اتجاهات «البصائر» وتأرجحت موازين» المصائر» ما بين تكهنات أفضت إلى الخطأ أو تأكيدات أوصلت إلى الصواب كل ذلك والإنسان فيها صاحب النظرة ومالك الرؤية وتبقى التجارب منبعاً للاستفادة ونبعاً للإفادة حتى تكتمل ميادين الاستزادة فتأتي النتائج ما بين قطبين من «البشائر» أو «الخسائر»
الأماكن كخلايا الجسد تسكن الإنسان يتأثر بها ويؤثر فيها تسهم في إراحته أو إزاحته ما بين «أحاديث» نفس تنتج الارتياح أو «أحداث» عمر تصنع الاجتياح.
للأماكن حديث يبدأ مع الإنسان منذ أن تتشكل في ذاكرته الصغيرة الدار التي نشأ فيها والممر أو الشارع أو الطريق الذي يشكل أول «هوية» بصرية للوصول إلى مستقره ومقره الذي بدأ فيه أولى أيام العيش وبدأت فيه الذاكرة بالتقاط الصور والأصوات والأصداء والتي تملأ العقل بالملفات الأولى التي تبقى الصورة «الذهنية» الباكرة التي استعمرت الحواس البشرية في بدايات التعايش مع الحياة والتعامل مع البشر..
تتشكل أولى دوائر «المعارف» من المكان الأول الذي عاش فيه الطفل ثم تتوالى في اتجاهات متعددة تتشكل فيها أولى «معالم» التالف مع المحيط الأسري و»عوالم» التواصل مع المجتمع الخارجي فتأتي «الوجوه» و»الصلة» والانتماء» لتكتب أولى ملامح «الكينونة» البشرية في أبعاد مختلفة وآفاق متعددة..
تتباين الأماكن وتتعمق في «الذاكرة» من خلال الحي والحارة والقرية التي يبدأ فيها الإنسان «الخطوات» الأولى فيتشرب «أنفاس» الصباح وسط نهاراتها ويتأقلم مع نسمات «هوائها» ويستنشق نسائم «مساءاتها» فتبقى تلك «المواقع» الخارطة الأم التي تتفرع منها «خرائط» متجددة تحتوي على «حدود» متباينة المسافات وخطوط مختلفة المقاسات وفق ما تمليه ضرورة «العيش» وتستوجبه حتمية «التعايش».
تأتي المدرسة بمختلف مراحلها ثم تعقبها الجامعة أو العمل فتبدأ مراحل أخرى من «الغربة» في أماكن جديدة تختلف فيها «الطبيعة» السابقة وتتكون وسطها «الرؤية» المسبقة فتبدأ الذاكرة في الاستعداد للمقارنة ما بين الماضي والحاضر والإمداد للمقاربة بين التوقع والواقع..
كل الأماكن بتفاصيلها تمثل منابع للمعرفة من خلال التجربة التي تكون بمثابة «التعلم» ومثوبة «التأقلم» وصولاً إلى التكيف النفسي والتواؤم السلوكي فالبشر مختلفون باختلاف طبائعهم وعاداتهم وسماتهم وصفاتهم ويبقى «الإنسان» في مد الاختلاف وجزر الائتلاف وسط بحور الحياة التي تتطلب منه أن يكون مستعداً في بداية الرحلة وواعياً في نهاية المرحلة..
ما بين الأماكن والذكريات والمعارف ترابط ذهني وارتباط وجداني يظل مع الإنسان في كل خطوات الحياة وفي شتى دروب العمر لينهل من التجارب الشافعة ويقترف من المشارب النافعة حتى يكون عضواً صالحاً في مجتمعه ويترك أثراً مفيداً بعد رحيله.