حسن اليمني
كان مفاجئًا للمتابعين موقف الحياد الذي اتخذه الكيان الإسرائيلي بين روسيا وأوكرانيا, موقف سيادي فعلاً لكنه لم يدم لأكثر من أسابيع, ولأول مرة يجبر الشعب الفلسطيني الكيان المحتل على اتخاذ قرارين متناقضين لكن مفصلين وبالغي الأهمية.
فقد أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانًا في الخامس عشر من الشهر الجاري، عبرت فيه عن «أسفها ورفضها للتصريحات الإسرائيلية التي تتهم روسيا بما أسمته (جرائم حرب) في أوكرانيا».
وشددت الخارجية الروسية في بيانها على أن تلك التصريحات ليست سوى محاولة لاستغلال الوضع حول أوكرانيا لصرف انتباه المجتمع الدولي عن أقدم النزاعات التي لم يتم تسويتها وهو (النزاع الفلسطيني الإسرائيلي).
وحمّلت الخارجية الروسية إسرائيل مسؤولية «مخالفة قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة من خلال مواصلة (الاحتلال غير الشرعي) والزحف لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية. وأشارت الخارجية إلى أن أكثر من 2.5 مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية معزولين عن باقي العالم في جيوب منفصلة، بينما أصبح قطاع غزة سجنًا مفتوحًا تحت حصار إسرائيلي بحري وجوي وبري منذ قرابة 14 عامًا.
كنت تحدثت في مقال سابق في هذه الجريدة عن حاجة وضرورة الكيان الإسرائيلي للحياد بين روسيا وأوكرانيا بخلاف ما قامت به أمريكا وأوروبا بمعارضته في أوكرانيا وحشدت له العالم وفتحت مخازن السلاح والدعم بفتح أبواب التطوع (الجهاد) لكل قادر على حمل السلاح لمواجهة الغزاة كما يصفون, وكان من الصعب إدانة إسرائيل لروسيا من قبل دولة احتلال, لكنه حدث أخيراً وكما جاء في بيان الخارجية الروسية من أن الكيان وصف ما حدث في «بوتشا وماريوبول» في أوكرانيا بـ»جريمة حرب» لتحترق بذلك كروت الكيان الإسرائيلي مع روسيا ببيان من الخارجية الروسية كما نقلته في السطور السابقة, لكن ما الذي حدث فعلاً واضطر الكيان لنقض حياده برغم أن سفيره في موسكو يهودي أوكراني الجنسية ليعود ويصطف مع أمريكا والغرب؟
إنه الشعب الفلسطيني وبالذات في القدس وبالتحديد في المسجد الأقصى, فقد كانت عملية اقتحام الأقصى لعيد الفصح اليهودي فرصة لتأجيج الفلسطينيين غايته جرهم لاستخدام السلاح في مواجهته ليجعل الأمر مواجهة للإرهاب وداعش وليس هبّة شعبية لمقاومة المحتل وذلك لخلق فصل كما قلت سابقًا بين الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والاحتلال الروسي (ربما) في أوكرانيا لكن ذلك لم يحدث, بل وبرغم وجود السلاح في الضفة الغربية وربما القدس إلا أن الفلسطينيين اكتفوا بتحمل أصناف الإرهاب والتطرف دون استخدام السلاح ما أعاد كشف الاحتلال وظلمه, ولأن الحاجة أصبحت ملحة للبحث عن غطاء لهذه الوحشية أمام توالي الإدانات فلا يغطي احتلال الكيان وأعماله الوحشية سوى أمريكا والغرب, فكان لا بد من العودة سريعاً للحاضنة للاحتماء بها, وكان الثمن المتوجب دفعه هو وصف (جريمة حرب) للعمل الروسي وهنا أقفل ملف وفتح ملف آخر جديد.
الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لحماية النظام العالمي وحيد القطب أو كما جاء في صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية إن الولايات المتحدة تأمل في بقاء الصراع في أوكرانيا لأمد طويل خدمة لمصلحتها الجيوسياسية الخاصة ومصنعي الأسلحة الأمريكيين, بينما تسعى روسيا لتغيير هذا النظام العالمي وحيد القرن - وصف مناسب - ولا شك أن العالم كله يبحث عن عالم جديد متعدد الأقطاب يتيح للدول خيارات أوسع وبالتالي فالأمر أكبر من أوكرانيا أو كيان إسرائيل بل إنهما مجرد كرتين للعب على رقعة ما يجري في العالم اليوم, ثم إن إعادة التذكير بقضية احتلال صدرت له مئات القرارات من شرعية القطب الواحد وأممه المتحدة ولا زال مستمرًا لأكثر من سبعة عقود يشكل ضربة قاصمة لهذه الشرعية وعالم القطب الواحد ويجعل الموقف الروسي وحربه في أوكرانيا كأنما هو حرب نيابة عن العالم كله لتصحيح النظام العالمي.
ما يجري في أوكرانيا فتح صفحة إعادة تصحيح التاريخ الذي يستوجب إعادة بناء النظام العالمي بشكل أكثر عدلاً - على الأقل في العنوان - ما يعني أن كل ما يجري اليوم بطريقة ما هو بمثابة تهيئة ظروف لتغيير صورة النظام العالمي، ولأنه لا احتمال إطلاقًا في تسوية عادلة في فلسطين بحكم وصول نظام الكيان إلى منطقة انسداد الأفق, وعجز الغرب الأمريكي المهين في الضغط على الكيان الإسرائيلي الأمر الذي ألجأ الإدارة الأمريكية اليوم وأمام خنق منافذ الفرص من قبل اليمين المتطرف إلى مفاوضة نتنياهو ليقدم حين كان رئيسًا للوزراء تنازلات ولو شكلية بغية تدعيم الغطاء في إعادة تجريب المجرب للاستهلاك ليس إلا غير أن نتنياهو ومهما قدّم من تنازلات فلا يمكن أن يتجاوز اللفظ دون أي فعل حقيقي, والأمر كذلك, فلا بد إذن من ظهور وسائل تسوية عادلة غير سياسية بالطبع بل بالقوة والإجبار وفق نظام عالمي جديد, أما كيف؟ فالله وحده أعلم.