د. تنيضب الفايدي
جبل حمراء الأسد من أشهر جبال المدينة المنورة الذي ارتبط اسمه بغزوة حمراء الأسد، وهو جبل حجارته حمراء ليس بالمرتفع جداً، سفحه سهل وتحيط به أرض منبسطة واسعة، يقع على مقربة من جبل عير في الاتجاه المقابل على يمين المسافر من المدينة إلى مكة عن طريق الهجرة، ويبعد عن المدينة المنورة 20 كم جنوباً.
ويقع تحديداً على الذاهب في طريق مكة القديم، وبعد تخطِّي مسجد الميقات في اتجاه مدينة بدر، وعند محطة تلفزيون المدينة المنوَّرة يُشاهد وادي البيداء على جانبي الطريق، ثم بعد تخطي تقاطع طرق الجامعات (طريق الخواجات) بكيلومتر واحد يوجد على يسار الطريق جبل حمراء الأسد. وهذا الجبل له علاقة بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، حيث وقعت بهذا المكان غزوة تسمى غزوة حمراء الأسد نسبة إلى هذا الجبل أو المكان».
غزوة حمراء الأسد
كان يوم أُحد يوم بلاء وتمحيص، أصاب المسلمون فيه قرح وبلاء شديد، حيث اختبر الله - عز وجل - به المؤمنين وأظهر بهذا اليوم المنافقين ممن كان يُظهِر الإسلام بلسانه وهو مستخف بالكفر. وأكرم الله في هذا اليوم من أراد كرامته بالشهادة، وقد وردت آيات في سورة آل عمران تظهر جوانب من غزوة أحد، علماً بأن المؤمنين لم ينهزموا في هذا الغزوة كما لم ينتصروا، ونال العدو منهم أكثر مما نال المسلمون منه، وإن اعتبر بعض الصحابة أن غزوة أحد مع ما ورد فيها من قرح وبلاء وتمحيص تعتبر نصراً للمسلمين.
قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: (ما نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موطن نصرُه يوم أحد). وذلك لأن الله أراد أن تكون النتيجة هكذا، حيث انصرف المشركون مع قدرتهم على دخول المدينة ولكن الله أعمى بصيرتهم، وقد حمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربّه وأثنى عليه كثيراً، فعندما أراد الرجوع إلى المدينة ركب فرسه، وأمر المسلمين أن يصطفوا، فاصطفّوا خلفه، وعامتهم جرحى، واصطف خلفهم النساء، وهن أربع عشرة امرأة، فقال - صلى الله عليه وسلم - : استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: اللهمّ لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطتَ، ولا باسط لما قبضتَ، ولا هادي لما أضللتَ، ولا مضلّ لمن هديتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا مانع لما أعطيتَ، ولا مقرّب لما باعدتَ، ولا مباعد لما قربتَ. اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول..، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف.. اللهم إني عائذٌ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتَ..، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك..، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق... وإصابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد يظهر مدى صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الجِراح وتحمله لأن من عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة في النهاية.
تاريخ هذه الغزوة
كانت غزوة حمراء الأسد يوم الأحد لثمان خلون من شوال، أي: بعد غزوة أحد مباشرة حيث كانت غزوة أحد يوم السبت وغزوة حمراء الأسد يوم الأحد فكأنها تابعة أو متممةً لها، وهي ضمن الغزوات التي لم يحدث فيها القتال.
سببها
لما انصرف أبو سفيان والمشركون من أحد وبلغوا الروحاء ، قال أبو سفيان: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم، شر ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع من حضره يوم أحد من المسلمين دون غيرهم إلى حمراء الأسد لمطاردة قريش.
هدف هذه الغزوة
أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال هذه الغزوة أن يعلم العرب في المدينة وخارجها من المشركين وممن في قلوبهم مرض أن المسلمين على قواهم العسكرية والروحية، وبعزائمهم الماضية وأن المسلمين لم تلحق بهم الهزيمة لولا غلطة الرماة.
حماس المسلمين وشجاعتهم
سارع المسلمون في الخروج ولم يتخلف منهم أحد على الرغم مما فيهم من جراحات وآلام، فقد روي أن أخوين من الأنصار وهما عبد الله بن سهل ورافع بن سهل كانا يوم أحد ورجعا جريحين، فخرجا يزحفان ليلحقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رافع أكثرهما جراحاً وضعف عن السير، فجعل أخوه عبد الله يحمله على ظهره مسافة، حتى يستريح ويتركه يمشي أخرى، وما زالا كذلك حتى أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأنزل الله تعالى فيهم (الَّذِينَ استجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) متفق عليه. مما يؤكد أن ما حصل في يوم أحد من خسائر لم تحدث في الجانب الإسلامي أي تصدع وارتباك، بل زادت من تحفز المسلمين للقتال، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن الخروج معه إلا لمن حضر يوم أحد.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو مجروح مع أصحابه في حمراء الأسد
مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مجروح مع أصحابه حتى وصل إلى موضع حمراء الأسد فوجد أن جيش مكة قد فاته، فأقام هناك ثلاثة أيام بلياليها، متأهباً للقاء قريش ولكن أبا سفيان لما بلغه خروج المسلمين إليه، خاف ولم يجرؤ على العودة لقتالهم، وتمّ إيقاد النيران في مئات المواقع في معسكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشاهدها من يتربص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جيش من بعيد، وقد تم إيقاد النيران في هذه الغزوة وفي غزوة فتح مكة، وفي حمراء الأسد ظفر المسلمون برجلين من قريش، معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، أحد جهابذة الشرك في مكة، وثانيهما الشاعر أبو عزة الجمحي الذي كان من أسرى بدر، والذي منّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير فداء لأجل بناته، وأخذ عليه عهداً ألا يقاتله ولا يكثر عليه جمعاً ولا يظاهر عليه أحداً، ولكنه نقض العهد وخرج مع قريش يوم أحد ويحرّضهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشِعره، وقد طلب أبو عزة العفو مرة ثانية مثل الأول، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا والله! لتمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمداً مرتين.. لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ثم أمر بضرب عنقيهما، فقتلا. رواه البخاري.
لقد تأكد من هذه الغزوة صدق الصحابة وصبرهم على جراحهم وحبهم للجهاد، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكد يؤذّن في الناس للخروج مرة أخرى لطلب العدوّ، حتى تجمع أولئك الذين كانوا معه بالأمس، من بعد ما أصابهم القرح وأنهكتهم الجروح والآلام، ولم يسترح أحد منهم بعد في بيته أو يفرغ للنظر في حاله وجسمه، وانطلقوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتغون المشركين الذين لم تخمد بعد في رؤوسهم جذوة النشوة بالنصر. ولم يكن في المسلمين هذه المرة من يطمع في غنيمة أو غرض دنيوي، وإنما هو التطلع إلى النصر أو الاستشهاد في سبيل الله، وهم يسوقون بين يدي ذلك جراحاتهم الدامية، وقروحهم المؤلمة. فما الذي كان من نتيجة ذلك؟ لا نشوة الظفر أو لذة الانتصار ربطت على قلوب المشركين ليتمموا نصرهم والتغلب على خصومهم، ولا وقع الهزيمة وآلام الجروح الكثيفة في المسلمين حال شيء من ذلك دون إقدامهم وانتصارهم.
وكيف كان السبيل؟.. لقد كان السبيل إلى ذلك آية إلهية خارقة لتتم الدرس والموعظة للمسلمين، وقع الرعب فجأة في قلوب المشركين وتصوروا كما أخبرهم صاحبهم الذين كان قد لمح المسلمين عن بعد، أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصحبه قد جاؤوا هذه المرة ومعهم الموت المؤكد لينثروه فيما بينهم، فارتدوا على أعقابهم بعد أن كانوا متجهين صوب المدينة، وانطلقوا سراعاً إلى مكة لا يلوون على شيء!..
أما كيف داخلهم هذا الرعب الغريب من المسلمين، وهم الذين كسروا شوكتهم ووضعوا السيف فيهم قبل ساعات فقط من الزمن، فمردّ ذلك إلى الإرادة الإلهية التي جعلت من هذه الموقعة كلها درساً بليغاً للمسلمين.
وفي هذا الختام الأخير المتمم لموعظة أحد نزل قوله تعالى: (الَّذِينَ استجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)، سورة آل عمران الآية (172 - 174).
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ استجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) هذا كان يوم حمراء الأسد، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم تندّموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة. فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الطبري: «قال أبو جعفر: القرح: الجرح والكلوم، وإنما عنى الله تعالى بذلك: الذين اتبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حَمْراء الأسد في طلب العدّو - أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش - مُنصَرَفهم عن أحد.
وفي التفسير الميسر في تفسير الآية أي: الذين لبُّوا نداء الله ورسوله وخرجوا في أعقاب المشركين إلى «حمراء الأسد» مع ما كان بهم من آلام وجراح، وبذلوا غاية جهدهم، والتزموا بهدي نبيهم، للمحسنين منهم والمتقين ثواب عظيم.
الدروس والأهداف التربوية
إن غزوة حمراء الأسد - رغم أنها لم يحدث فيها قتال - إلا أن هناك مجموعة الدروس والأهداف التربوية التي يمكن استنباطها من أحداثها، من أهمها:
أن المؤمن في استعداد تام لتلبية نداء الله ورسوله، في أي ظروف كان، كما أن خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد يظهر مدى شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وكذا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كما أن المؤمن الحقيقي يزيد إيمانه عندما يرى عدوه أو يخوّفه من عدوه.
ومن فوائدها أنه ينبغي للقائد أن يختار الوسائل المختلفة لإرهاب العدو وتخويفه، فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بإيقاد مئات النار لتخويف كفار قريش. ومن فوائدها أيضاً: أن العفو للعدو كان من شعار النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من ثم شعار المسلمين، لكن إذا تكرر من العدو نفس الجرم فالأولى تنفيذ الحكم، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي عزة الجمحي.