د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
نؤمن كثيرًا بالفن كمرصد لصياغة أحداث التاريخ الوطني بكل مكوناته وتجلياته وبمدركات مؤثرة عميقة؛ ونؤمن أيضًا أن الفنون جزء أصيل من المشروع الحضاري الإنساني لتأصيل القيم المستقاة عندما تكون الأحداث مصدرها؛ وأن الدراما نشاط خلاّق تصبُّ في عالم الانتماءات الصادقة للأوطان حينما تنقل صور النماذج الوطنية والتاريخ الوطني وما يحيطه من صور الحراك الاجتماعي الشعبي، وعندما تبسط المشاهد والصور عن البطولات الوطنية وعن القيم المجتمعية؛ ونؤمن أيضًا أن ملاحم البطولات الوطنية صيد ذهني وافر العدد والعدة لصناعة الولاء الوطني والفداء المكتنز، وإذا علمنا أن المشهد الدرامي الذي تقدمه الدراما التقاط متصل بتاريخ الأوطان والمجتمعات والشعوب وليس استرفادًا للتاريخ فحسب بل للثقافة أيضًا؛ وهو جزء من عدة مكونات؛ وأن تكامل تلك المكوّنات يصنعه خيال المُشاهد عندما تكون الصورة الذهنية ماثلة أمامه في شذرات أو روايات متواترة عن المُجايلين لأماكن الأحداث وزمانها، ولذلك فالمتلقون أو المشاهدون خارج المحلية ربما لا يفهمون وفق ما أراده المنتجون لهم؛ لأن عقولهم تخلو من الخلفية المعرفية التي تمكنهم من استيعاب الرسالة المتوخاة في الحبكة الدرامية، ولذلك فالسقف الدرامي يجب أن يتشكل من قبة عالية صادقة في عناصرها يراها العالم بوضوح من خلال استخلاص المحتوى الدرامي من مصادر وثيقة للتاريخ الذي مرت به الشعوب المنتجة للدراما الوطنية حين تنشد العالمية! وتأسيسًا على ذلكم الرأي وبعيدًا عن النقد الفني بمفهومه المتفق عليه، وتأسيسًا على الأبعاد الفنية لفن الدراما كفن راق إذا ما استخلص الفكر الدرامي في حبكة مدروسة بعناية لها نسيجها منذ استزراعها في النسيج الثقافي باعتبار الدراما جزءًا أصيلاً من الثقافة الوطنية التي يتشكل منها ذلك النسيج؛ فإن ما حظي به مسلسل (العاصوف) في نسخته الثالثة الذي يُعرض حاليًا على قناة «mbc» الفضائية حين تربّع مجتمعيًا على سدة المشاهدة والنقاش والحوارات بين المجايلين لتلك الحقب التاريخية وبين الأجيال التالية لها وهو مستراد جاهز لإبراز القناعات! حيث بدا العاصوف شاهدًا دراميًا على فترة زمنية من التاريخ الوطني الاجتماعي الشعبي وما أحاطه من تقلّب الأحوال آنذاك!! فأنضجها العاصوف في أذهان المشاهدين في زمننا هذا، وندرك تمامًا أن العمل الدرامي ليس رصدًا وثائقيًا ولكن تبقى الفكرة الناضجة هي من تصنع المحتوى وتبنمنصاته؛ ومن ثم يأتي دور المشاعر أصيلاً في أعماق المشاهدين، فالعاصوف استهدف مؤثرات الفكر وتأثير التوجهات المهيمنة كما ينعتونها آنذاك في مفاصل حياة الناس في متن درامي قوي يوضح سقف المعرفة الموجودة في المجتمع السعودي آنذاك ولكن الشخصيات ظهرتْ دون سقف معرفي مرموق أو لغة مستنيرة إلا أن مؤشرات النسيج الوطني المتين والاعتزاز بالأرض كانت من فرائد دراما العاصوف في نسخته الثالثة! وكان ما عُرض من التاريخ السياسي الوطني حين ارتفعت رايات بلادنا في حرب الخليج في تلك الدراما الجديرة بالامتلاء الأكثر والغزارة الأوفر؛ فهي مظاهر رؤية مكانية جالتْ في أمكنة الأحداث واتسعتْ فاتخذتْ شكلاً دراميًا ناطقًا شكّل من التراكمية السردية ما جعلها تعلو في العاصوف، ويجوز لنا أن نعدّ ذلك من مفاخر بلادنا فتضمين العاصوف معطيات تلك الحقبة الزمنية نستطيع أن نعدُّه من تجليات الدراما السعودية، فنتمنى أن تكون العاصوف مفتتحًا لصياغة وقفات من تاريخنا الوطني المليء بالبطولات في مشاهد درامية حافزة!
وتبقى الدراما التاريخية الاجتماعية فنًا وصناعة يجب أن تحضر في مشروع تطوير ثقافتنا الوطنية الشاملة؛ ولا يغيب عنا مقدار الحشد الوجداني الذي تمتلئ به فضاءات المشاهدين عندما تشرق أمامهم صور مضيئة من خلال الدراما!
ومن هنا فإننا نأمل أن يحظى المنتج الدرامي السعودي بكيل مجزٍ من التمعن والاهتمام؛ لأنه رسالتنا للأجيال الحاضرة والقادمة؛ ولأنه أيضًا إضاءة لبلادنا في الخارج؛ ولأنه توثيق في صور حية ناطقة؛ كما نأمل صياغة تشريعات للدراما السعودية تفتح مسارات للدراسات الأكاديمية محليًا وعالميًا ليتحقق من خلالها إتقان الصناعة وتحقيق الثقافة، كما نأمل أن يكون هذا الفن هاجسًا تربويًا من مهذبات السلوك ليتلقّفه التعليم كمنصة للوعي الفكري التربوي.
وختامًا فإن دراما العاصوف حملتْ الأحداث على جناحي طائر جال في الزمان والمكان فتجاوبتْ المَشاهد مع المُشاهد بشكل أكثر عمقًا.