الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يؤكد البعض أن التأصيل الشرعي مرتكز أساسي لحماية الفكر، فيما يرى آخرون أن تطبيق المنهج الشرعي في مدارسنا وجامعاتنا لم يثمر في مخرجاته.. "الجزيرة" حملت التساؤل إلى اثنين من أصحاب الفضيلة.. فماذا قالا؟
حفظ الضرورات الخمس
يقول فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار مفتي منطقة القصيم: من النعم التي أمتنّ الله -عز وجل- بها على عباده أن وضع لهم الأصول والأسس التي تنتظم بها عباداتهم، وتستقيم عليها أمور معاشهم وأرزاقهم، في شريعة ربانية، وقوانين إلهية، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}.
وليست الشريعة خاصة بأمة الإسلام فقط، فقد جعل الله -عز وجل- لكل أمة شريعة تنظم حياتها، ومنهجًا يضبط عباداتها وأخلاقها، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده أن يستقيموا على شريعة الله -عز وجل- التي وضعها كمنج يجمع بين الدنيا والآخرة، ويضبط أمور الحياة من معاملات وسلوكيات، وأمور الدين من عبادات وأخلاقيات، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
ولا يستقيم أن يرسل الله -عز وجل- الرسل، وينزل الكتب، ثم يترك عباده دون منهج يعيشون عليه، ودستورًا يتحاكمون إليه.
وهذه الشريعة لا تقبل النقد، ولا يجري عليها الخطأ، ولا يلحقها النقص؛ لكمال مصدرها سبحانه وتعالى، وتنزّهه عن المعايب والنقص، واتصافه بجميع صفات الكمال، فهو سبحانه:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وسطّر الله -عز وجل- هذه الشريعة في كتاب محفوظ عن الخطأ والعبث، ومصون عن التحريف والتبديل، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزُ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وذلك ضمانًا لبقائها، وحفظًا لأركانها، فالشريعة الإسلامية محفوظة بحفظ القرآن الكريم، والقرآن محفوظ بحفظ الله -عز وجل- الذي تكفّل بحفظه، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
وقد عدد الأصوليون عدة خصائص للشريعة الإسلامية منها أنها: ربانية المصدر، وثباتها، ومرونتها، وشموليتها، وواقعيتها، وغير ذلك.
من هنا.. كانت أهمية الشريعة الإسلامية، وأعني بالشريعة الإسلامية: الأحكام والقواعد والنظم المُشرَّعة من الله لإقامة الحياة العادلة وتصريف مصالح الناس وأمنهم في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة في شعبها المختلفة.
والشريعة الإسلامية إنما جاءت للعمل بها، وتعليمها، ونشرها، والاحتكام إليها، وقد جعل الله -عز وجل- ذلك علامة على الإيمان، فدلّ ذلك على أن تركها وإهمالها علامة على النفاق والخذلان، قال تعالى:(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
والشريعة الإسلامية إنما جاءت لبث روح الأمن في نفوس أصحابها، وحفظ الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال. وزاد بعضهم: العرض) برعايتها والمحافظة عليها، وقد عُلِمت رعاية الشرع لهذه الضروريات من مجموع نصوص الشريعة، قال الشاطبي في الموافقات مبيناً هذه الضروريات ووجه الاستدلال عليها: (فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ -بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ- عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ -وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ، بَلْ عُلمت مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ). انتهى.
ولنأخذ مثالًا تطبيقيًا في الحدود التي شُرعت لحفظ الأنفس كحد القتل، وما شرع لحفظ الأعراض كحد الزنا، وما شُرع لحفظ العقل كحد شارب الخمر، وما شُرع لحفظ الأموال كحد السرقة، وما شُرع لحفظ الدين كحد الردّة.
وتطبيق هذه الحدود، وإعمالها، يحفظ على المجتمع المسلم هويته، وأمنه، وطمأنينة، واستقراره.
إن بلادنا -ولله الحمد- منذ تأسيسها، قامت على الكتاب والسنة، منهجًا عمليًا تطبيقيًا، في سائر جوانب الحياة الدينية والاجتماعية، والاقتصادية، فكان ازدهارها ونماؤها، وتفوقها على مثيلاتها في شتى المجالات، خير دليل على عظمة هذه الشريعة.
إن ما يردده ثلة من الحاقدين، وأشياعهم من أصحاب الحقد الدفين على الإسلام وأهله برمي الشريعة الإسلامية بالقِدم، وعدم مناسبتها للزمان أو المكان، وغير ذلك من الافتراءات والادعاءات التي أثبت الواقع كذبها، ما هو إلا محض افتراء، وزعامات باطلة، وضلالات فاسدة، كما أن مما أثارة المستشرقون وأشياعهم في بلاد الإسلام أن الجماعات المتطرفة، وأصحاب المقالات الباطلة، والفرق المارقة، إنما هي وليدة تعاليم الشريعة الإسلامية، وهذا محض افتراء، وهذه الأمور جاءت الشريعة بتحريمها، ومحاربتها، ونبذها، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، وقال سبحانه:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، وقال سبحانه:(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ).
ومن مقررات عقيدة أهل السنة والجماعة التمسك بالكتاب والسنة والبعد عن مزلات الأقدام في الأفهام والأفعال، كما قال الطحاوي في عقيدته: "ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو بين الغلو والتقصير".
لقد خرج في وقت النبي -صلى الله عليه وسلم- أناس غلوا في الدين، فلم يتهم أحد الشريعة الإسلامية بأنها السبب في خروج مثل هؤلاء، بل انتقد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا السلوك، وبرأ الشريعة الغرّاء من أمثال هؤلاء، ففي حديث الثلاثة نفر الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه: (... أَما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)، وفي حديث ذي الخويصرة الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّه يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، رَطْبًا لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ قالَ: أَظُنُّهُ قالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ).
وفي عهد الخلافة الراشدة، برز أقوام من المسلمين، يكفّرون الصحابة، ويتكلمون في أمهات المؤمنين، بل وصل الأمر ببعضهم بقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فهل يقول قائل: إن الشريعة الإسلامية هي من أخرجت هؤلاء، أو أن أمثال هؤلاء المارقين هم نتاج تطبيق الشريعة؟!
إن القول بأن هذه الجماعات المتطرفة هي نتاج تطبيق الشريعة، أو تعلّمها، لا يقول به عاقل منصف، ولا يردده إلا حاقد أو جاهل.
إن الواجب على المسلمين تجاه هذه الحملات الشرسة على الإسلام وشرائعه، الالتفات حول الكتاب والسنة، والإقبال عليهما تعليمًا وتطبيقًا، وفهمًا صحيحًا موافقًا لمنهج أهل السنة والجماعة.
التقليل من شأن العقيدة
ويؤكد فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن جزاع الرضيمان مفتي منطقة حائل، أن العقيدة الصحيحة أمان من جميع الانحرافات، ومع الأسف قرأتُ هذا الرأي، فبعض الكتّاب هداهم الله يقللون من شأن تدريس العقيدة والعلوم الشرعية، وهم خاطئون في ذلك، ومعلوم أن الخوارج وُجدوا في عهد الصحابة -رضي الله عنهم-، وما كشف شبهاتهم وأبطلها إلا علماء الشريعة، ونحن نجد أن بعضاً من البلاد في زماننا وقعت فيها ثورات وفتن، وسفك للدماء، وقد أيّد تلك الثورات من أيدها من الكتاب والإخوانيين واللبراليين ونحوهم، بينما في بلادنا السعودية قام الخطباء في مساجدهم، قومة رجل واحد وحذروا من الثورات والخروج على الحكام، مستدلين بما دل عليه الكتاب والسنة، وبما نصت عليه العقيدة الصحيحة، من أصول ثابتة تمنع من الخروج ومنازعة ولاة الأمور، فكيف يُقلَل من شأن العقيدة؟ وكيف يقال إن المنهج الشرعي لم يُثمر؟ هذا بهتان عظيم.
إنه لا يقول ذلك إلا جاهل، أو صاحب فتنة يفرح بالثورات والشر، فيرغب بسبب ذلك في تنحية العقيدة التي تقف سداً منيعا أمام الثورات والفتن.
ونحن نسمع أن في بعض البلاد التي لا تُدَرِس العلوم الشرعية في مدارسها، جماعات عنيفة لديها غلو في الدين، وهذا يبطل توهم من يتوهم أن العلوم الشرعية سبب للتطرف، إنه لا يبطل الغلو في الدين، ويحمي الفكر إلا العقيدة الصحيحة، لأنها مستقاة من الكتاب والسنة، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون).
ونحمد الله تعالى أن دولتنا -وفقها الله- جعلت العقيدة الصحيحة أساساً لكل شئونها، وقد نص النظام الأساسي للحكم أن التعليم في المملكة يهدف إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء، وإكسابهم المعارف والمهارات، وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم، محبين لوطنهم، معتزين بتاريخه، وجاء في المادة 32 من النظام الأساسي للحكم ما يلي:
(تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله). وعليه: فلا يُلتَفت لهؤلاء الذين يزهدون في المنهج الشرعي، فهم يقولون قولاً لا دليل عليه، بل الدليل الشرعي والحقائق الواقعية والدراسات البحثية تخالف ما قالوه.