شقيقه «عبدالله» رحمة الله عليه، جاء به، ووضعه في مجلس بيتهم الطيني، كان ضيفنا في الصف الخامس يقرأ (العقد الفريد) وهو أول كتاب وجد فيه قصصًا أغرته بالقراءة ما جعله - فيما بعد - يتصيد كتب إخوته ليقرأها حتى لو لم يفهمها، ومنها (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان.
يعلق ساخرًا في مستهل الحوار الباحث الأستاذ (راشد محمد شعلان): «إن أردتم الحق قرأت منه ولم أفهم ولم أستمتع ولم أستأنس! كان الكتاب أكبر مني بكثير، ولكني قرأته في المرحلة الجامعية، وفهمته عند أستاذي الكبير د. عبدالعزيز الفدا، واستمعت به واستأنست».
* حراج ابن قاسم وأساتذتي في الجامعة
وأضاف: لن أنسى دور أساتذتي في الجامعة في توجيهي للكتب والقراءة فقد درسني علماء وأدباء كبار، أذكر منهم د. عوض القوزي رحمه الله، ود. ناصر الرشيد، ود. نذير العظمة، هؤلاء من شدة إعجابي بهم، ما ذكروا كتابًا في المحاضرة إلا اشتريته وقرأته، فتكونت عندي مكتبة لأمهات كتب الأدب (الأغاني لأبي فرج الأصبهاني والكامل للمبرد والشعر والشعراء لابن قتيبة والبيان والتبيين للجاحظ والحماسة لأبي تمام وتاريخ الأدب العربي للزيات وعمر فروخ وشوقي ضيف) وغيرهم.
وزاد: في حراج ابن قاسم تشكلت ثقافتي، وأذكر أني عندما كنت أستلم مكافأتي الجامعية، أذهب مباشرة إلى حراج ابن قاسم وأشتري بنصفها كتباً! اشتريت من حراج ابن قاسم كتب التراث الأدبية وكتب كبار أدباء عصر النهضة (الرافعي، والزيات، وزكي مبارك والمازني، والعقاد وأحد أمين) وغيرهم، كنت أشتري كتبهم بريالين واشتريت من «الحراج» مجلة الرسالة، أعظم مجلة أدبية، المجلد الواحد بـ 5 ريالات فقط! كما اشتريت أيضًا روايات عالمية كثيرة مثل (آنَّا كارنينا ليوتوليستوي ورواية العجوز والبحر لفيكتور هيجو) بريال واحد فقط!
ألا ليت أيام الرخص تعودُ
فأخبره بأسعار معرض الكتاب!
مع الاعتذار لأبي العتاهية رحمة الله عليه!
والطريف أنني اشتريت ديوان «يزيد بن الطثرية» تحقيق أستاذي الدكتور ناصر الرشيد، كنت أحضره معي وأضعه على الطاولة؟! أثناء محاضرة الدكتور، ليشاهده، مع أنه لم يقرره علينا، لكن يمكن إذا شاهده يعطيني درجات زيادة! هكذا كان تفكيري في ذلك الوقت! ما درى الدكتور أني اشتريته بريالين من حراج ابن قاسم!
المهم تنامت مكتبتي حتى أنها أخذت
جدارًا ونصفًا من غرفتي! ولدرجة أنَّ والدتي -رحمة الله عليها وأنزلها الفردوس- كانت تقول: «يا ولدي انتبه لا تطيح عليك هذه الكتب!» ولو كانت تعرف سبب وفاة الجاحظ لما رضيت أن تكون هذه الكتب في أرفف من الأرض إلى سقف الغرفة، تتأرجح وتترجرج ولا تبعد عن سريري إلا أقل من 30 سم!
* (الخيماوي) تقليد لمبارك والمازني والطنطاوي
ومن الطرائف أيضًا في الثانوية وبداية الجامعة: كتب «المنفلوطي» العبرات، والنظرات، ومجدولين، وبول وفرجيني، والشاعر، وفي سبيل التاج، فأفادت لساني وقلمي لما فيها من فن أدبي رفيع وبيان ساحر، ولكنه رحمه الله أدخلني معه في (غرفة) من الأحزان، وياما بكيت معه فيها! وعشت معه حزينًا أكثر من 3 سنوات، وما أخرجني من نوبة الحزن الطويل إلا (د. زكي مبارك) عندما تعرفت عليه في حراج ابن قاسم! فقرأت له: ليلى المريضة في العراق، وأسمار وأحاديث، وذكريات باريس، ومقالاته في مجلة الرسالة، فقد كنت أقرأ له وأضحك، وأحس وأنا أقرأ له بأربع متع:
متعة السرد والأسلوب الفاخر ورشاقة الكلمة والنقد الساخر، وطالما أدخل السرور إلى نفسي وأمتعها ذلك أن «مبارك» تقرأ له بمتعة ودهشة بدون أن تتعب
مثل ما تتعب عندما تقرأ للعقاد أو الرافعي!
وبعدها عرفت قيمة كتب الأدب الساخر، فقرأت للمازني، رحلة إلى الحجاز، ومن النافذة، وصندوق الدنيا، فسحرني أسلوبه، وخفة حروفه، وكاد أن يسقطني من الضحك لولا أنني كنت أمسك نفسي، ومع ذلك كنت أسقط أحيانًا! فحاولت أن أقلد مبارك والمازني والطنطاوي رحمة الله عليهم - وهم أساتذتي في الأدب الساخر - فأخرجت كتابي (الخيماوي) الذي كتبته بمداد من الدم الخفيف ليخفف من عناء القارئ من ضغوطات الحياة المعاصرة، وهمومها الفانية، ليعود للحياة وقد أشرق وجهه من جديد.
وأوضح مستعيدًا ذكرى إحدى تجاربه التي باءت بالفشل في التأليف والطباعة: من الطرائف أنَّ أحد أصدقائي - وهو تاجر كبير جدًا جدًا - قرأ مسودة الكتاب فأعجب به، وراق له، وانبسطت أساريره، ووعدني بطباعته، لكنه جحدني! تخيل بعد أن أدخلت عليه السرور، أدخلني في جدار سد! سامحه الله، ولعلها خيرة! وقبله كنت قد أصدرت كتاب (حوارات ظريفة مع أبرز شعراء العرب)، الذي حاولت فيه تقديم عمالقة الشعر العربي لجيل الشباب بأسلوب خفيف، يتناغم مع المرحلة التي يعيشها شبابنا في عصر المنصات الإلكترونية! هذا الكتاب أعده زكاة واجبة فرضها علي حبي للغتي وعشقي لها ولرموزها الكبار! فحاولت بكل وسائل الإغراء المعروفة، وغير المعروفة بإغراء شباب هذا العصر بقراءته!
* مكتبتي حلبة مصارعة!
وعن ولعه بالمعارك الأدبية، في مرحلة الشباب قال الشعلان: فُتِنت بها وما بقي - تقريبًا- كتاب عن المعارك الأدبية، إلا واشتريته وقرأته، أو مقالة عنها في مجلة «الرسالة أو مجلة الثقافة» إلا وصورتها من مكتبة الجامعة، حتى أصبحت مكتبتي وكأنها حلبة ملاكمة!
قرأت معارك الرافعي والعقاد، والرافعي وطه حسين، وزكي مبارك مع طه حسين وأحمد أمين، ومحمود شاكر مع طه حسين ولويس عوض، وأحمد الحوفي مع سلامة موسى وغيرها من معارك أديبة طاحنة!
هذه المعارك الأدبية على ما فيها إلا أنها أثرت الساحة الثقافية وألقت حجرًا في الساحة الراكدة، فحولتها إلى ميدان أدبي خصب ذكرنا بسوق عكاظ، ونقائض جرير والفرزدق التي لولاها لفقد الأدب العربي ثروة لا تُقَدَّر بثمن! ومازلت أحتفظ بنسخة نادرة من كتاب: المعارك الأدبية، لأنور الجندي - رحمة الله عليه - وأطالعه بين فترة وأخرى، وأردد:
يا سقى الله أيام الشباب!
من أفضل الكتب التي قرأتها وأثرت في كثيرًا واستفدت منها وتمنيت لو أني قرأته في مرحلة مبكرة من عمري، كتاب: أيها الأصدقاء تعالوا نختلف! للدكتور أحمد البراء الأميري، كنت قبل قراءة هذا الكتاب أتضايق عندما يعارض أحدٌ ما رأيي، أو يخالفني في أي قضية حتى لو كانت تافهة!
ولا تلومني أخي محمد ، فنحن في مجتمعاتنا العربية وثقافتها، تربينا من الصغر على الاعتزاز، والافتخار وعدم التنازل، أو التراجع في أي شيء والدليل على ذلك كثرة الأمثال والأقوال الشعبية التي تؤكد هذا ومنها « الذي يرجع في كلامه ما هو رجال» أما الحكمة التي تقول «الرجوع للحق فضيلة» فهي كانت للعصور الأولى حتى قولهم (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) هذه للعصور الأولى، أمَّا في عصرنا هذا فالاختلاف في الرأي يفسد للود كل قضية! ويُمكن أن يُطاح بك ثقافيًا واجتماعيًا عندما تختلف في الرأي مع بعض مثقفي هذا العصر! أعود إلى كتاب الأميري، وأقول بكل أسف ليتني قرأته في مرحلة مبكرة، فقد تعلمت منه أنَّ الاختلاف
في الرأي نعمة! بل هو من مقومات العقل الذي وهبه الله لنا، وأن العلماء الكبار اختلفوا فيما بينهم، وبقوا على ودههم، وما تقاطعوا بل ازدادوا ودًا وحبًا!
وما أحد منهم تبرأ من صديقه، أو قريبه المخالف له في رأيه! باختصار هذا الكتاب يعالج جمود العقل العربي وتكلسه!
** **
- محمد هليل الرويلي