يفخر العربي بجملة من الفضائل التي كانت لها وجوديتها في الواقعية الحياتية التفاعلية العربية، ثم ما لبث أن جاء الإسلام؛ حتى عمل على تعزيز هذا الحضور لهذه الفضائل، التي كان يحرص قروم العرب على أن تمثل مناقب لهم. وكيف لا؟ وهي تشعر الفرد العربي بأن تحليه بها يشعره بتحقيق ذاته واستشعار القيمة الشخصية لوجوده الإنساني.
بعبارة أخرى؛ أن نسبة كبيرة من المستوى الأعلى الذي وضعه ابراهام ماسلو في هرمه الشهير المعني بالاحتياجات الشخصية؛ قد حققه بعض -إن لم يكن جل- الأعراب في التتالي التاريخي لحضارتنا العربية.
من تلك الفضائل؛ أتناول في مقالتي هذه فضيلة الوفاء، التي عرف بها الكثير من الأعراب، ومن ضمنهم الشاعر عبيد الله بن قيس بن شريح، المعروف بابن قيس الرقيات. وهو ذلك الوفاء الذي حفظه لصديقه مصعب بن الزبير، والذي تولد لديه -في تقديري- نتاج استشعاره لذلك الاهتمام الشخصي وتلك القيمة والمنزلة التي أعطاه إياها ابن الزبير. الأمر الذي دعاه أن يقول فيه مادحًا:
إنما مصعب شهاب من الله
تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه
جبروت يخشى ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد
أفلح من كان همه الاتقاء
وعند مطالعتنا لهذه الأبيات، سنلحظ بأن ابن قيس قد أكد هو بدوره على جملة من الفضائل قد تحلى بها الممدوح؛ وهي على التوالي الرحمة، والتواضع والتقوى. وبدوري أرى بأن ما جعل ابن قيس الرقيات يميل لشخص مصعب ابن الزبير وجعله يخرج معه على حكم الأمويين ممثلًا في عبدالملك بن مروان، وأن يكون شعره في مدح مصعب أجمل من مدحه لغيره وعلى رأسهم عدوه التقليدي عبدالملك بن مروان الذي مدحه لاحقًا كنوع من التقية السياسية في تقديري، رغم إنه شاعر غزلي بالأساس، وفوق ذلك أن يعرض حياته للخطر، ليس –فقط- لنيل عطاء مصعب، وإنما قد كانت هناك أسباب أخرى ذات أبعاد إنسانية قد لامست شخص ابن الرقيات وجعلته يجد في نفسه ميلًا لاتباع مصعب، والتي كان على رأسها تلك المناقب التي وصفها في بعض شعره الذي عرضته بعاليه.
وربما أن هذا الوفاء الذي ولَّد الإعجاب لدى العديد ممن قرأوا سيرته، قد يكون هو من أهم الأسباب التي دعت المستشرق النمساوي نيكولاس رودوكاناكس، إلى الشروع في عام 1920م في تحقيق ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات، مع العمل على ترجمته ألمانية وتدوين تعليقات وفيرة عليه.
وهذا الوفاء لصديقه ابن الزبير مصعب، هو في اعتقادي ما دعا الخليفة الأموي عبدالملك ابن مروان أن يحرمه من أن يأخذ مع المسلمين عطاء، خاصة وإنه قد قبل وساطة عبدالله بن جعفر بن أبي طالب في أن يعفو عنه.
وهو الوفاء ذاته الذي دفع - في ظني- قيمته غاليًا، وترجم ذلك في أن يعيش بعيدًا عن المدينة المنورة التي شهدت أجمل فترات حياته، وأن يقيم في بلاد الشام بلا عطاء إلا ماتنازل له عنه من عطاءه ودفعه إليه عبدالله بن جعفر إلى أن توفي فيها. ولقد رسم لنا أبو فرج الأصفهاني في كتابه الأغاني، بعض صور وفاء هذا الرجل، من ذلك حادثة وصفه لَعُسْ مصعب الذي كان يسيقه فيه لبنًا ومدحه إياه حتى بعد مقتله.
ورغم رمي ابن قيس الرقيات لنفسه في بحر السياسة اللجي، إلا إنه قد كان في أساسه شاعر غزل، تفيض جمله بالرقة وتتوشح بالعذوبة وتتسم ألفاظه بالجزالة وفوق ذلك بالعذوبة وبمباشرة ووضوح المعنى من ذلك قوله:
لم يَصحُ هَذا الفُؤادُ مِن طَرَبِه
وَمَيلِهِ في الهَوى وَفي لَعِبِه
أَهلاً وَسَهلاً بِمَن أَتاكَ مِنَ ال
رَقَّةِ يَسري إِلَيكَ في سُخُبِه
باتَت بِحُلوانَ تَبتَغيكَ كَما
أَرسَلَ أَهلُ الوَليدِ في طَلَبِه
فَدَلَّها الحُبُّ فَاِشتَفَيتَ كَما
تَشفي دِماءُ المُلوكِ مِن كَلَبِه
وهي قصيدة طويلة يمكن لمن شاء مطالعتها. حقيقةً لقد رسم لنا ابن الرقيات بصنيعه المتمثل في وفاءه لمن عرفه، مكون تشكيلي من لوحة فسيفسائية كبرى تمثل أخلاق أبناء الجزيرة العربية.
** **
- د. حسن مشهور